أمد/ خلال الشهر الماضي، تحولت أخبار مقتل شبان في الضفة الغربية على يد قوات الاحتلال من حالات متفرقة إلى نمط متكرر يفرض نفسه على الشارع الفلسطيني. السيناريو واحد تقريبًا: مداهمة ليلية، احتكاك محدود، زجاجة حارقة تُرمى، ثم إطلاق نار ينهي المواجهة خلال لحظات. هذا التكرار لم يعد يُقرأ كجزء من “ظروف أمنية”، بل كتحول في طريقة التعامل الميداني لقوات الاحتلال، تحول يرى فيه الأهالي تصعيدًا مباشرًا لا يترك مجالًا لخطأ بشري أو لحظة اندفاع، ولا يمر عبر أي درجات تدريجية قبل الوصول إلى الخيار الأخطر .

سياسة التعامل مع المواجهات في الضفة تبدو وكأنها انتقلت إلى مرحلة جديدة، مرحلة يُقدَّم فيها إطلاق النار كخيار أول لا كاستثناء. صحيح أن استخدام الذخيرة الحية من قبل قوات الاحتلال ليس أمرًا مستحدثًا، لكن الأهالي يلاحظون اليوم فرقًا ملموسًا في سرعة القرار وحدّته . لم يعد الجندي ينتظر تقدير حجم الخطر، ولم تعد هناك مساحة للتمييز في درجة الخطر بل أصبح رد جنود الاحتلال الرد يأتي فورًا، وكأنه إجراء تلقائي لا يحتاج إلى تفكير .

العائلات التي فقدت أبناءها في الأسابيع الماضية معظمها يروي القصة بما تحمله من بساطة موجعة: شبان اندفعوا في لحظة غضب، تصرفوا بطيش يشبه أعمارهم، ولم يكونوا جزءًا من أي عمل منظم يمكن أن يضعهم في خانة “التهديد الحقيقي”. وهنا تكمن مأساة المشهد بأكمله؛ فهؤلاء الشباب لم يدخلوا المواجهة باعتبارهم مقاتلين، لكنهم خرجوا منها كما يخرج المقاتلون في أكثر الحروب قسوة، بلا فرصة للنجاة، وبحكم نهائي لا يتناسب مع فعلهم اللحظي .

إحدى الأمهات في شمال الضفة قالت إنها تدرك أن ابنها ارتكب خطأً في لحظة توتر، لكنها لا ترى أن ذلك يبرر النهاية التي وصل إليها. كانت تحاول فهم ما إذا كان يمكن التعامل مع الموقف بطريقة مختلفة، بعيدًا عن الحسم الفوري. هذا الشعور لا يقتصر عليها وحدها؛ فالعائلات التي فقدت أبناءها تتحدث بنبرة تجمع بين الأسى والحيرة، حتى لدى أولئك الذين يعترفون بأن أبناءهم تصرفوا باندفاع. بالنسبة لهم، حجم الخسارة كان أكبر من الفعل نفسه، وترك أسئلة مفتوحة حول كيفية إدارة مثل هذه المواجهات .

في الضفة الغربية لم يعد السؤال مرتبطًا بمن يبدأ المواجهة، فهذه التفاصيل تضيع سريعًا وسط المداهمات المتكررة وتوتر الشوارع. ما يفرض نفسه اليوم هو كيف تنتهي المواجهات ، إذ بات من الواضح أن نهايتها في كثير من الحالات محسومة قبل أن تبدأ. ردّة الفعل الإسرائيلية أصبحت معروفة بطبيعتها العنيفة والمتجاوزة لكل حدود الضرورة، وتنتهي غالبًا برصاصة لا تمنح الشاب فرصة للاعتقال أو التحقيق أو حتى التراجع عن فعل اندفاعي. هذا التحول في أسلوب التعامل لا يشير إلى ردّ فعل ميداني فوري فحسب، بل إلى سياسة باتت تأخذ شكلًا ثابتًا، تُختصر فيها المواجهة بقرار سريع وحاسم، يحمل من القوة أكثر مما تحتمله الواقعة نفسها .

هذا التحول ليس مجرد تغيير في ردّ فعل آني، بل هو مؤشر عميق على المرحلة التي تدفع إليها الضفة الغربية ببطء؛ مرحلة يشعر فيها الأهالي بأن قدرة أي شاب على النجاة باتت رهينة لحظة لا يمكن التنبؤ بها، وأن المسافة بين الاشتباه والموت أصبحت قصيرة بشكل غير منطقي .

الأهالي الذين اعتادوا الخوف من السجن باتوا يخافون الآن من احتمال أسوأ بكثير، وهو أن يتحوّل أي احتكاك عابر إلى نهاية دائمة. هذا الخوف ينعكس على كل شيء: طريقة الكلام مع الأبناء، حدود حركتهم، حتى نظرة العائلات إلى الليل الذي كان زمن الراحة وأصبح زمن الاحتمالات المفتوحة. كل بيت يرى نفسه أقرب خطوة مما يجب إلى المصيبة، حتى لو كان أبناؤه بعيدين عن العمل المنظم أو المواجهات المباشرة .

ومثل كثير من التغييرات التي تُصاغ بهدوء في الأراضي المحتلة، لا يعلن أحد رسميًا أن قواعد اللعبة تبدلت، لكن السلوك على الأرض يقول ذلك بوضوح. يظهر في سرعة الضغط على الزناد، وفي قناعة تتشكل لدى الجنود بأن “إنهاء التهديد” أولى من اعتقال شاب يمكن السيطرة عليه. ويظهر أيضًا في تلك النظرة التي يحملها الأهالي، نظرة تعرف أن أبناءهم يتحركون داخل مساحة ضيقة لا تسمح بخطأ واحد.

شاركها.