أمد/ في ظل التحديات الوجودية التي يواجها الشعب الفلسطيني، تبرز الدبلوماسية كأداة محورية لتحقيق المصالح الوطنية وبناء التأييد الدولي. فهي ليست مجرد وسيلة رسمية للتمثيل، بل فضاء تفاعلي يُعيد صياغة الرواية الوطنية ضمن سياق عالمي متعاطف ومتضامن. فالدبلوماسية الفلسطينية لا تمثّل دولة مكتملة السيادة، بل قضية شعب يناضل من أجل الحرية، وإنهاء الاحتلال، ووقف الظلم، والبقاء على أرضه، وعودة اللاجئين.

وقد أظهرت التجربة التاريخية قدرة الفلسطينيين على إحداث اختراقات دبلوماسية لافتة، تفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وتُرسّخ الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية. وبرز دبلوماسيون فلسطينيون كأصوات نضالية فاعلة، تحدّت السردية الإسرائيلية داخل المؤسسات الإعلامية والسياسية الغربية، وساهموا في تعزيز الروابط مع الجاليات في الخارج، مما أسهم في ترسيخ شرعية الرواية الفلسطينية وبناء تحالفات تضامنية عابرة للحدود.

ومع ذلك، لا يهدف هذا المقال إلى انتقاص تلك الإنجازات أو التشكيك في الشخصيات الدبلوماسية الفاعلة، بل يسعى إلى تقديم قراءة نقدية بناءة للتحولات البنيوية التي عصفت بالجهاز الدبلوماسي الفلسطيني، وتحليل التحديات البيروقراطية والانقسام السياسي التي حولت هذا الجهاز من أداة تعبئة شعبية إلى خطاب بروتوكولي يفتقر للروح النضالية.

فبينما كانت مكاتب منظمة التحرير قبل السلطة الوطنية منصات نضال ثوري تعبوي، انحصر دور الدبلوماسية بعد اتفاق أوسلو داخل سقف سياسي رسمي منخفض، متماهٍ مع شروط التفاوض ومفرغ من قيم التحرر الوطني. هذا التحول خلق طبقة وظيفية متحزبة، بعيدة عن الواقع الفلسطيني، مرتبطة بأفق دبلوماسي ضيق لا يعكس عمق المعاناة الفلسطينية من الإبادة والتهجير.

ما يُسمى اليوم بـ “نضال البدلات الرسمية” كرّس التباعد بين الدبلوماسي الفلسطيني والشارع الفلسطيني، فغابت التعبئة الجماهيرية وحلّ محلها الأداء الباهت للتمثيل الصوري، البيانات الرسمية باتت تحل محل النضال السياسي الحقيقي، وأصبح الحراك الدبلوماسي مجرد تكرار للخطابات دون اشتباك فعلي مع العالم.

ساهم هذا التحول أيضًا في تعزيز الانقسام الداخلي؛ فبعض البعثات باتت تتحدث باسم فصيل معين، وتقصي الفاعلين الشعبيين المعارضين، مما غذّى الشرخ داخل الجاليات، بل إن بعض السفارات أصبحت تعكس سياسات الدول المضيفة أكثر من تعبيرها عن مصالح الفلسطينيين، بل وتتبنى سرديات تتماهى مع التطبيع أو التهدئة، على حساب مفاهيم المقاومة والمقاطعة والحقوق التاريخية.

الجهاز الدبلوماسي، المفترض أن يكون ذراعًا تحرريًا، تحوّل إلى عبء مالي في ظل ازمة مالية مستفحلة، وفي ظل غياب المساءلة، يتم التعيين وفق المحاصصة، والسفارات أصبحت كيانات إدارية بلا حراك، منفصلة عن الحراك العالمي المتضامن مع فلسطين، وسببًا في ابتعاد بعض المتضامنين نتيجة ضعف الخطاب ورسمية الحراك.

في المقابل، ملأت المنظمات الفلسطينية الشعبية المستقلة، مثل “مؤسسة هند رجب”، وحركة المقاطعة”BDS”، و”صامدون”، الفراغ الذي خلّفته الدبلوماسية الرسمية، وأسهمت في بناء خطاب حقوقي وأخلاقي عالمي، استنهض الضمير الدولي وساهم في محاسبة الاحتلال أمام القانون.

هذا الحراك الشعبي أثبت أن القضية الفلسطينية لا تسكن الملفات الدبلوماسية، بل تنبض في ضمير العالم الحر، وتُفعّل عبر تعبئة جماهيرية، ونشاط إعلامي، وتضامن عابر للحدود.

وبالتالي، لا بد من إعادة تعريف الدبلوماسية الفلسطينية كأداة مقاومة ومناصرة، لا كمؤسسة فئوية بيروقراطية، فالجهاز الحالي عاجز عن مخاطبة العالم بفعالية ما لم يخاطب العالم بجذور القضية: النكبة، جرائم الحرب، والواقع الاستعماري في غزة والضفة والقدس، لا يكفي الترويج لفكرة الاعتراف بالدولة المنتظرة، بل يجب أن يرتبط النضال الدبلوماسي بالعمل على وقف الجرائم المستمرة ضد الفلسطينيين.

كما لا يمكن إصلاح الجهاز الدبلوماسي الفلسطيني دون معالجة الإطار السياسي الأشمل، الذي يعاني من الانقسام والفئوية وسقفه السياسي اتفاقيات اوسلو وغياب المشاركة الشعبية الواسعة. فالدبلوماسية ليست كيانًا مستقلًا، بل انعكاسٌ مباشرٌ لبنية سياسية غارقة في الأزمات. وإذا أُريد لها أن تتحول إلى أداة فاعلة للتحرر والمناصرة، لا بد من إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس الوحدة، والتكامل، والانخراط الشعبي من الداخل والخارج على حدٍ سواء، ففلسطين لا تتحرر بخطاب دبلوماسي معزول، بل بتكامل نضالي يربط الساحات والشتات برؤية سياسية جامعة تُمثل الشعب لا تُقصيه.

شاركها.