أمد/ في عالمٍ بات فيه الصراع بين القوى الكبرى أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، تقف الدول العربية أمام معادلة شائكة: كيف تحافظ على استقلالية قرارها، دون أن تصبح ساحة صراع بين واشنطن، بكين، وموسكو؟ وهل يمكن للعرب أن ينتهجوا “الحياد الإيجابي” كخيار استراتيجي واقعي وفاعل؟ أم أن هذا الطرح محض مثالية سياسية في بيئة لا ترحم؟
تعدد المحاور وتعقيد الحسابات
خريطة التحالفات الدولية تعيش حالة من السيولة. أمريكا لم تعد وحدها القطب الأوحد، والصين تتقدم بثبات كقوة اقتصادية ناعمة، بينما تحاول روسيا أن تعيد تشكيل حضورها العالمي بالصلابة العسكرية والدبلوماسية. في خضم هذه المشهدية، تجد الدول العربية نفسها مطالبة بالتحرك بحذر، حيث كل انحياز له كلفة، وكل موقف له تبعات.
الحياد الإيجابي: ما المقصود به؟
الحياد ليس انسحابًا، ولا تهربًا من المسؤولية، بل هو تبني موقف مستقل يخدم مصلحة الدولة، ويراعي مصالح الشعوب، دون الارتهان لمحور بعينه. هو الانخراط دون التورط. الحوار مع الجميع دون الانصياع لأي طرف.
وقد تجلى هذا المفهوم مؤخرًا في محاولات بعض الدول العربية الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من الولايات المتحدة والصين، والاستفادة من الاستثمارات الروسية دون الانجرار خلف سياساتها العسكرية.
دوافع البحث عن الحياد
الإرهاق من التبعية التاريخية: كثير من الدول العربية خرجت من عباءة الاستعمار وهي محمّلة بتحالفات قسرية ما زالت تلقي بظلالها.
تغير المزاج الشعبي: الشعوب باتت أكثر وعيًا بمصالحها، وأقل تسامحًا مع التبعية العمياء.
حسابات التنمية: التوازن مطلوب لجذب الاستثمارات، والتكنولوجيا، والدعم التنموي من كل الأطراف.
تحديات هذا الخيار
ضغوط مباشرة: القوى الكبرى لا تقبل دائمًا الحياد، وتُمارس أحيانًا ابتزازًا سياسياً واقتصادياً.
انقسام عربي داخلي: غياب التوافق العربي الموحد يُضعف من قدرة العرب على تبني موقف جماعي محايد.
غياب بنية استراتيجية مستقلة: لا يمكن ممارسة الحياد من دون مؤسسات فكرية، وإعلامية، وأمنية، قادرة على بلورة الرؤية وحمايتها.
تجارب لافتة
بعض الدول العربية بدأت تُظهر مؤشرات على هذا النوع من الحياد الإيجابي، من خلال تنويع شراكاتها، وعدم الانحياز التام لأي طرف في أزمات كأوكرانيا، أو الحرب التجارية الصينية الأمريكية، أو الملف الإيراني.
هل هو خيار واقعي؟
نعم، بشرط أن يُمارَس بعقلانية وذكاء سياسي، وأن تُبنى السياسات الخارجية على أساس المصالح لا العواطف، وعلى الاستقلال لا الانجرار.
والخلاصة:
فإن الحياد الإيجابي ليس شعارًا رماديًا، بل موقفًا يتطلب شجاعة في التوازن، وحكمة في التعاطي مع المتغيرات، واستقلالًا حقيقيًا في القرار.
وفي عالم تتصارع فيه العمالقة، ليس عيبًا أن تقف الدول العربية في موقع متزن، بل العيب أن تُستخدم كأدوات في حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل.