الجزائر وباريس.. العلاقات على كف عفريت
هل تخرج العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا عن السيطرة وتتخذ مسارا غير مأمول؟ بعبارة واضحة ومفهومة: هل تسير الأحداث نحو قطع العلاقات بين البلدين؟ سؤال كبير ومقلق بالنسبة إلى الكثير من المراقبين والمتابعين لسلوك النظام الفرنسي الذي لم يعرف لحد الآن الطريقة المثلى التي يتوجب التعامل بها مع الجزائر الجديدة، مفضلا الاستغراق في أساليب قديمة تنتهج الضرب تحت الحزام والابتزاز.
مستغلا الأوضاع الاقتصادية والمالية المزرية وارتهان القرار الرسمي في أيدي لوبيات ومجموعات ضغط تعمل في سراديب ودهاليز الدولة العميقة، يتمادى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصفية خلافاته مع خصومه السياسيين عبر تصدير الأزمات إلى الساحة الجزائرية، التي كانت ولا تزال مادة دسمة في الحملات الانتخابية وعمليات الشيطنة بغرض المساومة وهذا منذ عقود.
في السابق، كان المقابل لهذه الممارسات هو الاستسلام والرضوخ، لكن ومنذ خمس سنوات تغيرت التوجهات وارتقت الأهداف والغايات في الجزائر، ولا يبدو أنها مستعدة للتفريط في أي من شروط إرساء علاقات متوازنة وإبرام شراكة تراعي التطورات الحاصلة في البلد ومؤسساته، ولاسيما ما تعلق بمبدأ الندية واحترام السيادة الوطنية.
والظاهر أن الجانب الفرنسي لم يبذل بعد الجهود المطلوبة من أجل نهاية سريعة للخلافات القائمة وطي الصفحة والتوجه معا نحو بناء مستقبل مشترك بين البلدين، يمر حتما عبر احترام اختيارات الشعب الجزائري وعدم التدخل في شؤونه الداخلية والكف عن التشويش على مواقفها ومصالحها في محيطها المغاربي والإفريقي، اللذين يعتبران ضمن مجالها الحيوي والاستراتيجي.
لقد كانت باريس ويبدو أنها لا تزال تصر على اعتبار الجزائر، مثل بقية دول المنطقة، قطعة من مناطق نفوذها، وتفرض بذلك على دول العالم، قبل التفكير في القدوم إلى الجزائر والتعاون والشراكة معها، المرور أولا عبر البوابة الباريسية، حتى صارت الدول تصرح في الكواليس والعلن بأنها تضطر لاستشارة باريس في كل صغيرة وكبيرة عندما يتعلق الأمر بالجزائر.
غير أنه ومنذ الحراك السلمي في 2019، عرفت العلاقات بين البلدين حالة مزمنة من المد والجزر، تحاول الكثير من الأطراف الفرنسية ووكلاء لها في المنطقة، وتحت تأثير من جهات إقليمية أخرى تمارس الإغراء بالمال، تأزيم الأوضاع والحؤول دون إحراز أي تقدم في ترميم العلاقات المتدهورة.
ولم يتوان الرئيس عبد المجيد تبون في مناسبات كثيرة عن لفت الانتباه إلى العبث الذي تقوم به لوبيات تتحكم في مراكز صناعة القرار في باريس وتعمل ضد أي تقارب بين الدولتين على أساس رؤية الجزائر الجديدة. وبدل الاستماع والإنصات الجاد والاقتناع بتغيير الأوضاع، كان الجانب الفرنسي يلتف على التفاهمات ويسير في نهج معاكس لها، ما جعل الجانب الجزائري يصرف النظر تماما عن أي تقارب يقوم على التردد والمكر والابتزاز، إدراكا منه أنه لن يفيد أيا من الطرفين.
وبسبب عدم استعداد الجانب الآخر للعمل بجدية وبحسن نية لتطبيع العلاقات مع الجزائر وفقا للأسس الجديدة، المعلن عنها من طرف الرئيس تبون خلال اللقاءات والاتصالات الهاتفية مع الرئيس ماكرون، لا يستبعد المراقبون والمنشغلون لمصير العلاقات بين البلدين أن يتخذ منحى هذه الأخيرة اتجاها لا يرضي المتفائلين بعودة المياه إلى مجراها الطبيعي في المستقبل المنظور. إذ يشير هؤلاء إلى إصرار باريس، الغارقة في أزمة سياسية واقتصادية معقدة، على الإضرار بمصالح الجزائر وسعيها المتواصل لزعزعة استقرارها بكل الوسائل، بل والمراهنة على إحداث فوضى تعمل دوائر استخباراتية فرنسية على إشعال فتيلها بلا هوادة، عبر استغلال بعض ضعاف النفوس وبائعي الذمم من الجزائريين تحت ضغوط متعددة، وتجنيد ذوي السوابق العدلية منهم والتائبين من الإرهابيين الذين يتناسون عفو وتسامح الشعب الجزائري ومؤسساته من أجل الانخراط في أي مؤامرة تستهدف الاستقرار والسلم.. وما قضية المدعو أمين عيساوي إلا واحدة من تلك المحاولات البائسة التي تصدت لها مصالح الأمن الجزائرية بكل احترافية ومسؤولية.
إن ما يمكن اعتباره عنجهية استعمارية متجددة ما هو سوى تخبط واضح وارتباك جلي وتصدع كبير في منظومة الحكم في باريس، التي أصبحت عاجزة عن فهم التحولات الجارية في العالم والتغيرات التي تتسارع وتيرتها في منطقة البحر الأبيض المتوسط، خاصة في الجزائر التي تصر أكثر من أي وقت مضى على استرجاع مكانتها ودورها وريادتها للمنطقة ضمن مفهوم السيادة الوطنية التي تنص عليها القوانين الدولية واقتناع الشركاء في الضفة الشمالية بتغير قواعد اللعبة التي يجب مسايرتها حفاظا على علاقات دائمة ومتينة، تقوم على أساس المصالح المتبادلة والمتوازنة بعيدا عن الإملاءات والتدخل في شؤون الدول.. وبأنه ليس من حق أي شريك حالي أو محتمل في المستقبل التفكير بمنطق الاحتكار والاستقطاب من أجل فرض أو كسر شراكات مع أطراف أخرى في الشرق والغرب.