الجزائر في الطليعة

في لحظة تاريخية فارقة، شهدت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، إعلاناً جريئاً غير مسبوق خلال القمة الثامنة والثلاثين للاتحاد الإفريقي، حيث اعتمد رؤساء الدول والحكومات الإفريقية قراراً يصنف الاستعمار والترحيل والعبودية والتمييز العنصري كجرائم ضد الإنسانية.
جاء هذا القرار في إطار موضوع الاتحاد الإفريقي لسنة 2025: “العدالة للأفارقة والأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي من خلال التعويضات”، ليعكس التزام الاتحاد الراسخ بالعدالة التعويضية للشعوب الإفريقية وأبنائها في مختلف أنحاء العالم، وتتويجاً لمسيرة نضالية طويلة وتأكيداً على الذاكرة الجماعية الإفريقية التي ترفض طي صفحة الماضي قبل تحقيق العدالة والإنصاف عن الجرائم المرتكبة بحق إفريقيا والأفارقة من إبادة ومجازر جماعية، وترحيل قسري، ونهب منظم للثروات والموارد الطبيعية، وتجارب نووية، واستعمال الأسلحة الكمياوية والألغام، وغيرها من الجرائم.
تستند مطالبة الاتحاد الإفريقي بالتعويضات إلى مسار تاريخي ممتد بدأ مع تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، عندما بادرت الدول الأعضاء بإدراج مسألة الاعتراف بجرائم الاستعمار والتعويض عنها ضمن أولوياتها. وقد شهدت هذه المسيرة محطات مفصلية، أبرزها إنشاء مجموعة الشخصيات البارزة عام 1992، ومن ثم إعلان أبوجا التاريخي عام 1993، الذي سلط الضوء على “الدين الأخلاقي الفريد وغير المسبوق تجاه الشعوب الإفريقية الذي لم يتم سداده بعد دين التعويض للأفارقة باعتبارهم الشعب الأكثر إذلالاً واستغلالاً خلال القرون الأربعة الماضية من التاريخ الحديث”.
تعززت هذه المطالبات خلال المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية في ديربان عام 2001، حين اعترف المجتمع الدولي بأن تجارة الرقيق والاستعباد كانت جرائم ضد الإنسانية. ورغم أهمية هذا الاعتراف الرمزي، إلا أنه لم يُترجم إلى إجراءات ملموسة لجبر الضرر الذي لحق بالشعوب الإفريقية عبر قرون من الاستغلال والقهر.
في قلب هذا الحراك الإفريقي، تبرز الجزائر كنموذج حي للمقاومة والنضال ضد الاستعمار. فبعد مائة واثنين وثلاثين سنة من الاستعمار الفرنسي البغيض، الذي ارتكب أبشع صور القمع والإبادة والترحيل والتعذيب، دفعت الجزائر ما يربو عن خمسة ملايين شهيدا ثمناً لحريتها واستقلالها.
ومنذ فجر استقلالها، حملت الجزائر لواء القضايا التحررية في إفريقيا والعالم، مدافعةً بحماس عن مبادئ إنهاء الاستعمار وتقرير المصير. ولم تكتف الجزائر بحمل صوت الشعوب المستعمَرة، بل أصرت على أن يعترف المجتمع الدولي بالدين التاريخي للقوى الاستعمارية ويتحمل مسؤوليته.
هذا، وتشكل مسألة التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية في الستينيات نموذجاً صارخاً للجرائم الاستعمارية التي لا تزال آثارها البيئية والصحية حاضرة إلى اليوم. وتواصل الجزائر المطالبة بالتعويض عن هذه الأضرار من خلال تعويضات مادية، واستعادة الأرشيف، وتسليم خرائط الألغام المتروكة على أراضيها، فضلاً عن التعويض عن الخسائر البشرية والبيئية الناجمة عن هذه التجارب.
خبرة تاريخية وموقع ريادي
وبفضل خبرتها التاريخية وموقعها الريادي في مكافحة الاستعمار، ساهمت الجزائر بنشاط في تعزيز مبادرات التعويضات الإفريقية؛ وقد تجلى ذلك بوضوح في مشاركتها الفاعلة في المؤتمر الدولي حول التعويضات في أكرا عام 2023، حيث عزز إعلان أكرا المبادرة الإفريقية في مجال التعويضات ووضع اللبنات الأولى لعمل جماعي يهدف إلى الحصول على الاعتراف بالجرائم الاستعمارية وإنشاء آليات قانونية للتعويض.
واعترافاً بجهودها المميزة ودورها التاريخي في مناهضة الاستعمار، كُلفت الجزائر من قبل نظرائها الأفارقة، مع كل من جنوب إفريقيا وغانا وتوغو، بحمل قضية تجريم الاستعمار والمطالبة بالتعويضات على المستوى الدولي. هذا التكليف يعكس ثقة إفريقيا في قدرة الجزائر على إيصال صوت القارة بقوة ومصداقية في المحافل الدولية.
وتضطلع الجزائر بهذه المهمة في سياق عالمي معقد، حيث تتصاعد الأصوات التي تحاول إعادة تلميع صورة الاستعمار واختزال تاريخه الدموي في “مشروع حضاري”، متجاهلةً الإبادة والمجازر الجماعية، والترحيل القسري، والنهب المنظم للثروات والموارد الطبيعية، والتجارب النووية، واستعمال الأسلحة الكمياوية والألغام، وغيرها من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.
ولأنها ليست مجرد سعي لتصحيح أخطاء الماضي، فإن المطالبة بالتعويضات هي نضال من أجل مستقبل أكثر عدالة وإنصافاً، على اعتبار أن الجراح التي خلفها الاستعمار لا تزال نازفة، وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لا تزال حاضرة في بنية المجتمعات الإفريقية وفي العلاقات الدولية غير المتكافئة.
اعتراف واعتذار وتعويض
ومن خلال تجربتها المريرة، تدرك الجزائر أن التعويضات يجب أن تتجاوز البعد المادي لتشمل الاعتراف الرسمي بالجرائم الاستعمارية، والاعتذار الصريح من الدول المستعمِرة، وإعادة الممتلكات الثقافية والأرشيف المنهوب، وتعويض الضحايا وذويهم، وإصلاح الضرر البيئي الناجم عن الممارسات الاستعمارية.
كما لا يقتصر نضال الجزائر على المطالبة بالتعويض عن أضرار الماضي فحسب، بل يمتد ليشمل مكافحة الأشكال المعاصرة للاستعمار، في وقت لا يزال فيه الاستعمار الجديد والتدخل الخارجي والاستغلال الاقتصادي تحديات كبيرة تواجه القارة الإفريقية.
وفي هذا السياق، دعت الجزائر ولازالت إلى إصلاح جذري للمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لضمان تمثيل إفريقي عادل في هيئات صنع القرار العالمية، إذ أن غياب التمثيل الإفريقي الكامل في مجلس الأمن يجسد استمرار منطق الهيمنة الاستعمارية، ويحرم القارة من صوت مؤثر في القضايا المصيرية التي تهمها.
ويأتي تجريم الاستعمار والمطالبة بالتعويضات في لحظة حرجة من تاريخ العلاقات الدولية، حيث تتصاعد نزعات إعادة كتابة التاريخ وتبرير الجرائم الاستعمارية. إن إصرار الجزائر والدول الإفريقية على فتح هذا الملف ليس سعياً لإذكاء العداوات، بل هو تأكيد على أن بناء مستقبل أفضل يتطلب مواجهة حقيقية مع الماضي، واعترافاً صريحاً بالظلم التاريخي، وإرادة حقيقية لتصحيح مساره.
إن التزام الجزائر بقضية التعويضات والعدالة التصالحية نابع من تجربتها المريرة مع الاستعمار، ومن قناعتها الراسخة بأن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على احترام سيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. وستواصل الجزائر، إلى جانب شركائها الأفارقة، نضالها من أجل عدالة تعويضية تكرم ذاكرة الشعوب الإفريقية، وتصون كرامتها، وتمهد الطريق نحو علاقات دولية أكثر توازناً وإنصافاً.
وبذلك، فإن قرار تجريم الاستعمار والمطالبة بالتعويضات ليس مجرد نقطة في تاريخ الاتحاد الإفريقي، بل هو بداية لمرحلة جديدة من النضال الجماعي الإفريقي، مرحلة ستكون فيها الجزائر، كما كانت دائماً، في طليعة المعركة من أجل الحرية والكرامة والعدالة.