الثقافة المالية كمحفز للوصول إلى الحرية المالية

أمد/ يواجه الأفراد في العصر الحديث تحديات مالية متزايدة تتطلب وعياً متقدماً بمهارات إدارة المال، لا سيما في ظل تزايد الفرص والمخاطر المالية. من هنا تبرز أهمية “الثقافة المالية” كأداة تمكينية أساسية للوصول إلى ما يُعرف بـ “الحرية المالية”، وهي المرحلة التي يتمكن فيها الفرد من توليد دخل يغنيه عن الحاجة إلى العمل اليومي لتلبية احتياجاته.
الحرية المالية تعني القدرة على توليد دخل منتظم دون الاعتماد المباشر على العمل، ويكون هذا الدخل عادة من الاستثمارات مثل الأسهم، السندات، العقارات، أو الصناديق الاستثمارية. وهي اللحظة التي يصبح فيها الفرد حراً في قراره المهني، حيث يعمل بمزاجه لا بحاجته.
ففي تجربة افتراضية، طُرح سؤال على مجموعة من الشباب: أيهما تختار، مليون دولار لمرة واحدة في نهاية الشهر، أم نصف دولار يتضاعف يوميًا لمدة شهر؟ معظمهم اختار المليون دولار، لغياب الفهم لما يسمى بـ “النمو التراكمي” و”العائد على الاستثمار”، وهو ما يُعرف في الاقتصاد بـ “أعجوبة الدنيا الثامنة”.
الثقافة المالية كمحفز للحرية المالية
تشمل الثقافة المالية مجموعة من المهارات والمعارف المتعلقة بإدارة الموارد المالية الشخصية، مثل إعداد الميزانية، الادخار، الاستثمار، الاقتراض، وفهم المنتجات المالية والعوامل الاقتصادية المؤثرة. ويتفاوت مستوى الثقافة المالية بين الأفراد والمجتمعات، ويوجد مؤشرات عالمية لقياسها، مثل فهم الأفراد لمفهوم التضخم، والذي يعكس تآكل قيمة العملة بمرور الزمن.
كلما ارتفعت درجة الفهم المالي لدى الأفراد، زاد توجههم نحو الاستثمار بدلاً من الادخار السلبي. وهنا يظهر طريقان رئيسيان للاستثمار: طريق سريع محفوف بالمخاطر مثل تأسيس المشاريع الناشئة، وطريق طويل قائم على التراكم والنمو المستدام. كلا الطريقين يتطلب فهماً متيناً للمخاطر واتخاذ قرارات مبنية على أهداف مالية واضحة.
لا يمكن تجاهل العوامل الاجتماعية التي تعيق الوصول إلى الحرية المالية، مثل ضغط المجتمع ونظرة الآخرين، والتي تدفع الأفراد إلى سلوكيات استهلاكية زائفة كشراء السيارات الفارهة أو الملابس باهظة الثمن. وغالباً ما يكون ذلك على حساب القروض والديون، دون أن يعكس بالضرورة وضعًا مالياً مستقرًا.
القاعدة الذهبية في هذا السياق هي: “عش دائماً بأقل من مستوى دخلك”، وهي منطلق أساسي لبناء استقرار مالي، ويمكن تصنيف الأفراد من حيث علاقتهم بالمال إلى ثلاث فئات ، من نفقاتهم أعلى من دخلهم هم (مديونون)، ومن نفقاتهم تساوي دخلهم هم (مفلسون)، ومن دخلهم أعلى من نفقاتهم هم (مستثمرون)
والوعي بهذه الفئات يسهم في إعادة توجيه سلوك الفرد المالي نحو الادخار والاستثمار.
الركائز الأساسية للثقافة المالية
أولاً: إعداد الميزانية هو أول خطوة نحو تحقيق الاستقرار المالي يتضمن ذلك مراقبة الدخل والنفقات الشهرية بطريقة منظمة ، من خلال إعداد الميزانية، يمكن تحديد المبالغ التي تُنفق على الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والمواصلات، وكذلك الترفيه وادخار جزء من الأموال، ويساعد هذا في تحديد أولويات الإنفاق والحد من التبذير، و يتيح للفرد توفير المال بشكل أكبر وتوجيهه نحو أهداف مالية مهمة، وفي خضم التطورات التكنولوجية الحالية يمكن للأفراد استخدام التطبيقات الرقمية أو الجداول الإلكترونية لتتبع النفقات بشكل دوري، وهذا سيساعد على التعرف على المجالات التي يمكنك تقليص النفقات فيها.
ثانياً: الادخار فهو عملية وضع جزء من الدخل بعيداً عن الاستخدام اليومي لمواجهة الأزمات المستقبلية أو لتحقيق أهداف مالية مثل شراء منزل أو تمويل التعليم، ويُعتبر الادخار من العادات المالية الأساسية التي يجب على الجميع تبنيها، حيث يوفر الأمان المالي ويوفر المرونة في مواجهة الظروف غير المتوقعة.
سيكون مفيد للفرد ان يٌحدد نسبة معينة من دخله الشهري للادخار، مثلاُ أن تكون هذه النسبة 10% أو أكثر من الدخل الصافي، وقد يكون مفيداً أيضاً فتح حساب ادخار منفصل لتقليل الإغراءات في استخدام المال المدخر.
ثالثا: الاستثمار هو أحد الطرق الأكثر فعالية لبناء الثروة على المدى الطويل، و يشمل الاستثمار شراء الأصول مثل الأسهم، السندات، أو العقارات التي من المتوقع أن تزداد قيمتها مع مرور الوقت، ويُعتبر الاستثمار خياراً مهماً لمن يسعى إلى تحقيق نمو مستدام لثروته، لكنه يتطلب معرفة وإلمام بالأسواق المالية.
الاستثمار الصحيح يتطلب قبل البدء به فهم المخاطر المرتبطة بكل نوع من الاستثمارات، يُنصح باستثمار فقط المبالغ التي يمكن تَحمُل خسارتها دون التأثير الكبير على الوضع المالي.
رابعاً: الاقتراض جزء طبيعي من الحياة المالية لمعظم الناس، سواء كان ذلك للحصول على قرض عقاري، قرض سيارة، أو حتى قرض شخصي، لكن المهم هو أن يتم الاقتراض بحذر وفهم كامل للشروط والأحكام المترتبة عليه، ويمكن أن يكون الاقتراض أداة قوية إذا استخدامه بشكل مناسب، وقد يتحول إلى عبء إذا كانت الفوائد مرتفعة أو لم تتم إدارة السداد بشكل جيد.
فالتأكد من القدرة على سداد الأقساط بانتظام خطوة مهمة قبل قرار الاقتراض، الى جانب الحرص على مقارنة العروض من عدة مؤسسات مالية لاختيار أفضل الشروط.
خامساً: إدارة الديون او ما يسمى ب ” الحفاظ على الصحة المالية” بشكل فعال هي مهارة حيوية في عالم المال، فمن يحمل ديوناً يجب ان تكون لديه استراتيجية لسدادها بأسرع وقت ممكن لتجنب تراكم الفوائد والرسوم المترتبة عليها، وتنظيم الديون يشمل ترتيب أولويات السداد وفقاً للفوائد المترتبة على كل دين، بالإضافة إلى تجنب المزيد من الديون بقدر الإمكان.
سادساً: التمويل الشخصي يتطلب فهم المنتجات المالية المختلفة مثل القروض التأمينية والقروض الشخصية والمعرفة العميقة بكيفية عمل هذه المنتجات وفوائدها وأضرارها، فقبل شراء أي منتج مالي مثل التأمين، يجب التأكد من مقارنة الخيارات المتاحة وتحديد الاحتياجات التي تغطيها البوليصة بشكل دقيق.
سابعاً: العوامل الاقتصادية تلعب دوراً مهماً في اتخاذ القرارات المالية، تشمل هذه العوامل التضخم، أسعار الفائدة، والسياسات الحكومية التي قد تؤثر على دخول الأفراد ونفقاتهم، مثلاً في فترة ارتفاع معدلات الفائدة، قد يصبح من الصعب تحمل تكاليف الاقتراض، مما ينعكس سلباً على الأفراد الذين يعتمدون على القروض في تمويل احتياجاتهم.
هل الحرية المالية هدف للجميع؟
ليس بالضرورة أن يسعى الجميع للحرية المالية، إذ تتطلب قرارات مثل تأجيل الاستهلاك الحالي مقابل مكاسب مستقبلية استعداداً نفسياً وانضباطاً مالياً. فالحرية المالية خيار، وثمنه يتمثل في الانضباط، تقليل الاستهلاك، وتأجيل الإشباع الفوري.
إن الوصول إلى الحرية المالية ليس نتيجة للظروف وحدها، بل هو انعكاس لمجموعة قرارات مدروسة تستند إلى ثقافة مالية واعية. ويمكن للمؤسسات المتخصصة أن تلعب دورًا مهمًا في تعزيز هذه الثقافة، من خلال التوعية وتقديم الأدوات اللازمة لمساعدة الأفراد على التخطيط المالي السليم. فالوعي المالي لم يعد رفاهية، بل ضرورة تساهم في تحسين جودة الحياة وضمان الاستقرار الاقتصادي للفرد والمجتمع.