التوازن في التعامل مع نعم الله تعالى

تعيش الأمة الإسلامية الأجواء الروحانية لشهر الصيام والبر وتطهير النفوس من الأسقام، شهر التخلي والتحلي والقرب من المولى الأجلّ، كما أن هذا الشهر المبارك فرصة لانعتاق الأمة من مخالب سلطان العادات الذميمة، وتحررها من قيود شهوات النفس الأمّارة بالسوء.
يقول الحق جل وعلا: {يا بني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} الأعراف:31، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما تهب عليه نسائم هذا الشهر العظيم تتألق نفسه وتتشوق روحه لنفحاته القدسية، فيزف البشرى إلى أمته لتأخذ حظها من هذا الخير العظيم والفضل الجزيل فيقول عليه الصلاة السلام فيما يرويه النسائي عن أبي هريرة: “قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حرِمَ”. هكذا كان عليه الصلاة والسلام يبشر أمته ويحفز هممها لكي تغنم حظها من نفحات هذا الشهر الفضيل، علّهم يفوزون منه بحسن النوال والأفضال.
ورغم هذه المزايا الإلهية والعطايا الربانية الممنوحة للعباد، إلا أن البعض يأبى أن يغنم نصيبه منها، فيتقاعس عن الخير، ويقبل على هذا الشهر الفضيل بمزيد من التواني والغفلة والكسل، والتفاني في اللهو والباطل والزلل، والمسارعة إلى اقتناء ما لذ وطاب مما يُشرب ويؤكل، وكأنه مقبل على سنوات قحط ومجاعة، ونسي بأن رأس الغنى القناعة، فبدل أن يستقبله بالصبر والتقوى وحسن التدبير، يستقبله بالإسراف والمعصية والتبذير، وهذه من المظاهر القبيحة التي يحسن بالمسلم التخلص منها في هذا الشهر المبارك، فرمضان فرصة للتغيير الحقيقي وتعزيز للوسطية، فقد جاء ليعلمنا التوازن في الإنفاق والاستهلاك، والابتعاد عن كل مظاهر السرف والتبذير. ورغم أننا في أيامه الأخيرة، إلا أن هذه الظاهرة ما زالت لم تختف من حياة المجتمع.
ومظاهر الإسراف في هذا الشهر الفضيل كثيرة ومتعددة، لكن يمكن أن نجملها في ثلاثة مظاهر:
1إسراف في الطعام وذلك بإعداد كميات كبيرة يُرمى نصفها في حاويات القمامة، وهذا إجرام كبيرة في حق نعم الله في الوقت الذي يعاني كثير من أبناء الأمة من الجوع والحاجة للطعام.
2إسراف في الوقت، بإضاعته في النوم والتسلي بالبرامج التلفزيونية بدلا من اغتنام أوقات هذا الشهر الفضيل فيما يقرب من المولى عز وجل.
3إسراف في المال، بالإنفاق الزائد على حاجة الإنسان.
ولا يخفى عليكم ما في هذه الخصال الشنيعة من تهديد للمجتمعات، وتبديد للثروات وجلب للعقوبات، وقد ذم الله تعالى أهل هذه الخصال الشنيعة وتوعدهم عليها بأشد الوعيد، وأعظم بلية وأسوء رزية تلحق بالعبد أن يخرجه الله تعالى من صنف أحبابه: {إنه لا يحب المسرفين}، قال بعض السلف: جمع الله الطب في نصف آية: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} الأعراف:31. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة»، هذا هو الميزان الذي يجب أن نزن تعاملنا مع نعم الله تعالى، وقد مدح عز وجل عباده المقتصدين فقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} الفرقان:67، قال ابن كثير: أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا وخير الأمور أوسطها.
وإن من مظاهر سخط الله ما يحصل في أسواقنا في هذا الموسم الذي نحن أحوج فيه إلى غذاء الروح، بدل التهافت على الكماليات، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: «إياكم والبطنة في الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فإنه أصلح للجسد، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه».
فليس من أخلاق الإسلام أن يستمتع الإنسان بما منحه الله فيما حرم عليه، وهناك من المسلمين من هو محتاج إلى جزء من هذه الأموال التي تصرف على الشهوات والملذات والكماليات ليسد بها حاجته وحاجة عياله. فالواجب على المسلم الذي وسّع الله عليه في الزرق أن يتفقد حال إخوانه من أهل الفاقة والأرامل ذوات الأيتام، خصوصا ونحن نعيش نكبة إخواننا في أرض غزة الذين شردوا من ديارهم وحوصروا من كل الجهات فلا طعام يصل إليهم ولا شيء مما تقوم به حياتهم، فهؤلاء أولى أن نلتفت لهم بأعطياتنا وهباتنا، وتذكروا وأنتم تواسون هؤلاء قول الذي لا ينطق عن الهوى: “أنفق يابن آدم ينفق الله عليك”. فالرحماء يرحمهم من في السماء، وبالاستغفار يعود الازدهار.
*إمام أستاذ بمسجد سلمان الفارسي أدرار