التسلط والاستبداد: معيقات التحرر الوطني والانفتاح الفكري

أمد/ في عالم تسوده التحديات، يحتاج بناء مجتمع مدني قائم على التعددية والانفتاح الفكري إلى قيادة واعية تدرك قيمة التنوع وحرية التعبير. لكن عندما ينشأ القائد في بيئة تعتمد القهر والخضوع وتقدّس الرؤية الواحدة، فإنه يصبح عاجزًا عن قيادة شعبه نحو التحرر الوطني الحقيقي. فالتربية السلطوية لا تنتج سوى عقولًا مقيدة، ترى في القمع وسيلة للحفاظ على النظام، وفي الاستبداد أداة للسيطرة، مما يجعل القيادة تتحول إلى ممارسة ديكتاتورية، بدلاً من أن تكون حاضنة للفكر الحر والمشاركة الشعبية.
إن الاستبداد يعيد إنتاج نفسه بشكل متكرر، فالشخص الذي نشأ في بيئة لا تسمح بالنقد أو الاختلاف، وتعلم منذ صغره أن الطاعة العمياء هي الفضيلة المطلقة، يتحول لاحقًا إلى قائد يرى في نفسه المرجعية الوحيدة، ويرفض أي رأي مخالف. وهكذا، يصبح من تربى على القهر ممارسًا له حين يمتلك السلطة، سواء كان ذلك في إطار الدولة، الحزب، أو حتى الحركات النضالية. والمفارقة أن البعض ممن يرفعون شعارات النضال ضد القهر الخارجي هم أنفسهم الذين يمارسون القمع الداخلي، فيتحولون إلى سلطويين باسم التحرير، مبررين ممارساتهم بالضرورات الوطنية، غير مدركين أنهم بذلك يقوضون أسس الحرية التي ينادون بها.
إن فكرة تحقيق التحرر الوطني بعقلية المستبد هي مغالطة كبيرة، فالشعوب لا تتحرر بأدوات القمع، بل بالوعي والمشاركة الفاعلة. لا يمكن للحرية أن تنبثق من قيادة ترى الشعب قاصرًا يحتاج إلى وصاية، بل من قادة يحترمون الإرادة الشعبية ويؤمنون بأن التحرير لا يقتصر على كسر قيود الاحتلال، بل يشمل أيضًا تحرير العقول من الخوف والاستبداد والانغلاق الفكري. وإذا كانت النضالات الوطنية تهدف إلى بناء دولة حرة وديمقراطية، فمن غير المنطقي أن تعتمد على قادة يمارسون نفس الأساليب القمعية التي حاربوها، لأن النتيجة لن تكون تحررًا حقيقيًا، بل مجرد استبدال قيد بآخر، حيث يتغير الحاكم لكن تبقى العقلية القمعية كما هي.
لكي يتمكن أي مجتمع من تحقيق التحرر الوطني والانفتاح الفكري، فإنه يحتاج إلى قيادة تمتلك رؤية ديمقراطية، وتؤمن بالتعددية، وتتخذ من المشاركة والتعاون منهجًا بدلاً من التفرد بالقرار. فالمجتمعات التي نجحت في تجاوز الاستبداد هي تلك التي تمكنت من تفكيك البنى السلطوية، وسمحت بحرية الرأي، واحترمت حقوق الأفراد والجماعات، وأدركت أن الاختلاف ليس تهديدًا، بل عنصرًا أساسيًا في التطور السياسي والاجتماعي. فالقيادة الحقيقية لا تقوم على القوة القسرية، بل على الشرعية المستمدة من إرادة الشعب، وحين يفشل القائد في الاستماع إلى شعبه، ويعتقد أنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، فإنه يخلق بيئة خانقة، تقضي على أي فرصة للنمو الفكري والسياسي، مما يؤدي في النهاية إلى الانفجار الداخلي، إذ لا يمكن للناس أن يقبلوا الاستبداد إلى الأبد.
والمجتمع الذي يخضع للقمع لا يمكن أن يكون مجتمعًا مبدعًا أو منتجًا فكريًا، فالخوف يكبل العقول، ويمنع الأفراد من طرح أفكار جديدة أو انتقاد الأوضاع القائمة، مما يؤدي إلى حالة من الجمود الثقافي والسياسي. وهذا بالضبط ما يسعى إليه كل مستبد، إذ يدرك أن حرية الفكر هي العدو الأكبر للاستبداد، لأن المجتمع الواعي لا يقبل أن يكون تابعًا أو خاضعًا لسلطة الفرد الواحد. وعلى العكس، فإن المجتمعات التي تقوم على حرية الفكر والتعبير تكون أكثر قدرة على التطور، لأن الأفكار الجديدة تجد طريقها إلى التطبيق، والنقد يؤدي إلى التصحيح، والتنوع يثري الحياة السياسية والاجتماعية. وعليه، فإن أي قائد يسعى إلى بناء مجتمع مدني حقيقي، عليه أن يرفض النزعة الاستبدادية، ويشجع الناس على التفكير بحرية، ويقبل بوجود معارضة قوية وفعالة.
لكن كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية؟ إن التخلص من تأثير التربية القمعية يتطلب التركيز على عدة نقاط أساسية، أولها التربية على الديمقراطية، حيث يجب أن يبدأ التغيير من المؤسسات التربوية، بتعليم الأفراد منذ الصغر أهمية حرية التعبير، والحوار، واحترام الاختلاف، لأن المجتمع الذي ينشأ على هذه القيم سيكون أكثر قدرة على إنتاج قادة ديمقراطيين في المستقبل. كما أن تمكين المجتمع المدني يمثل ركيزة أساسية لمواجهة الاستبداد، إذ لا يمكن تحقيق الحرية بدون وجود مؤسسات قوية قادرة على محاسبة السلطة، وخلق فضاءات للنقاش الحر، وتقديم بدائل حقيقية للنموذج السلطوي.
إضافة إلى ذلك، فإن إعادة بناء الثقافة السياسية أمر ضروري، فلا يكفي إسقاط الحكام المستبدين، بل يجب أيضًا إصلاح العقلية السياسية التي تنتج الاستبداد، وذلك من خلال تعزيز الوعي بأهمية المشاركة الشعبية، ودور المؤسسات الديمقراطية، وأهمية تداول السلطة بشكل سلمي. كما أن مكافحة الخوف والتردد تلعب دورًا محوريًا في مقاومة الاستبداد، إذ يزدهر القمع عندما يكون الناس خائفين من التغيير، ولذلك فإن أحد أهم وسائل مقاومته هو بث الثقة في قدرة الشعوب على صنع مستقبلها، وكسر حاجز الخوف الذي يمنعها من المطالبة بحقوقها.
ختامًا، فإن النضال ضد الاحتلال لا يكتمل بدون النضال ضد القمع الداخلي، لأن التحرر الحقيقي لا يكون فقط بتحرير الأرض، بل بتحرير الإنسان من كل أشكال التسلط والاستبداد. ولذلك، فإن أي قائد يسعى إلى تحقيق الحرية لشعبه، عليه أولًا أن يحرر نفسه من عقلية القهر والخضوع، لأن من نشأ على الطاعة العمياء لا يمكن أن يقود شعبه نحو الاستقلال الحقيقي، بل ينتهي به الأمر إلى استبداد جديد بواجهة مختلفة. إن التاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تتمتع بوعي سياسي عميق، وترفض الاستبداد بكل أشكاله، هي التي تستطيع أن تصنع مستقبلها بنفسها، وتبني دولًا قائمة على العدالة والحرية والمساواة. أما الشعوب التي تقبل بأن تُقاد بعقلية السلطوية، فإنها تظل عالقة في دوامة الاستبداد، عاجزة عن تحقيق التحرر الوطني أو الانفتاح الفكري، مهما رفعت من شعارات.
*أستاذ أصول التربية المساعد