أمد/ من يقرأ المشهد الفلسطيني اليوم قد يظن أن الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة هو وليد السنوات الأخيرة، لكن بالعودة إلى التاريخ تكتشف أن هذا الفصل له جذور أعمق، بدأت قبل عقود من الزمن، وتطورت عبر مراحل متعاقبة حتى وصلت إلى شكلها الحالي.

قبل 1967: إدارتان منفصلتان،:

منذ عام 1950، أصبحت الضفة الغربية تحت الإدارة الأردنية بعد وحدة الضفتين، بينما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية منذ 1948 عقب النكبة.

ورغم أن الهدف المعلن كان خدمة القضية الفلسطينية، إلا أن هذه الوضعية كرّست إدارتين منفصلتين، ما أوجد اختلافًا في القوانين والتعليم والبنية الإدارية، وأسّس لفكرة “إقليمين” بدل كيان موحد.

1967: الاحتلال الكامل

جاءت حرب يونيو 1967 لتضع الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر.

رغم أن الاحتلال اعتمد في البداية على الإجراءات العسكرية المباشرة، إلا أنه بدأ تدريجيًا في فرض سياسات تهدف إلى التحكم بالحركة وتقييد التواصل بين الضفة وغزة، وهي إجراءات ستظهر آثارها بشكل أوضح في العقود التالية.

السبعينات والثمانينات وترسيخ الفصل عبر الهويات:

في هذه المرحلة، برزت سياسة بطاقات الهوية الملونة: الهوية البرتقالية لسكان الضفة، والبنية لسكان غزة.

هذا التمييز لم يكن إجراءً شكليًا، بل أداة لضبط الحركة وفرض قيود صارمة على التنقل، مما صعّب التواصل الاجتماعي والاقتصادي بين المنطقتين، ورسّخ عمليًا الانفصال الجغرافي.

اتفاقيات أوسلو،: (19931995) وحدة سياسية محدودة:

مع توقيع اتفاقيات أوسلو، تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة أجزاء من الضفة وغزة، وحدث قدر من التواصل الجغرافي بينهما.

لكن هذا التواصل بقي خاضعًا لسيطرة الاحتلال على المعابر والحدود، مما جعل الوحدة السياسية شكلية إلى حد كبير، ومرهونة بإرادة الاحتلال.

انتفاضة الأقصى (20002005) و تشديد القيود والانقسام العملي:

في عام 2000، اندلعت انتفاضة الأقصى، وهي موجة واسعة من الاحتجاجات والمواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال بعد دخول شارون آنذاك إلى المسجد الأقصى

وأدت هذه الانتفاضة إلى زيادة الإجراءات الأمنية الإسرائيلية بشكل كبير، حيث تم فرض حواجز ومعابر مشددة، وأصبحت حركة الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة محدودة جدًا بل تكاد تكون مستحيلة وحتى عمليات تغيير مكان السكن أو السفر أصبحت شبه مستحيلة دون تصاريح وصعوبة الحصول عليها، مما جعل الفصل الجغرافي بين الضفة وغزة شبه كامل، وأدى إلى تعميق الانقسام العملي قبل الانقسام السياسي الفعلي لاحقًا في 2007.

2007 والانقسام السياسي يرسّخ الانفصال:

جاء الانقسام السياسي بين حناحي الوطن وادى الى نقطة التحول الأهم.

فوجود كيان سياسي يحكم غزة، مختلف عن الضفة، أعطى الاحتلال الذريعة لتعميق الفصل، وشرعنة حصار غزة دوليًا، وتكريس واقع “كيانين” منفصلين، على طبق من ذهب كما يقال.

كما أن الدعم الخارجي المباشر وغير المباشر لهذا الانقسام، الأجندات الاقليمية افشلت كل محاولات المصالحة، وجعل الانفصال أمرًا واقعًا.

النتيجة: مستفيد واحد:

من مجمل هذا المسار، يبدو واضحًا أن الاحتلال كان المستفيد الأكبر من كل خطوة على طريق الانقسام، سواء كان هذا الانقسام سياسيًا أو جغرافيًا.

فالسيطرة على المعابر، وإبقاء الانقسام قائمًا، وتغذية الخلافات الداخلية، كلها عوامل منحت الاحتلال وقتًا ومساحة لتعزيز مشروعه الاستيطاني وإضعاف أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني موحد.

*استشراف للمستقبل: فصول لم تُكتب بعد:

إذا كانت السنوات الماضية قد شكلت “المواسم” الأولى من مسلسل الانقسام الفلسطيني، فإن ما هو قادم يبدو أقرب إلى حلقات جديدة تُصاغ بذكاء، تحت غطاء إنساني مُضلّل.

السيناريوهات المحتملة تشير إلى أن الاحتلال، ومعه بعض الأطراف الإقليمية والدولية، سيواصلون الاستثمار في الانقسام، لكن بوجه جديد:

*لغة إنسانية ناعمة عن “تخفيف المعاناة” و“تحسين الظروف المعيشية” في كل من الضفة وغزة، لكن مع إبقاء الانفصال قائمًا بحجة “الخصوصية الجغرافية والسياسية لكل منطقة”.

*مبادرات اقتصادية منفصلة: مشاريع بنية تحتية أو موانئ أو مناطق صناعية لكل طرف، مما يعمّق الفجوة بدل ردمها، لكن يُسوَّق الأمر كـ”خطوات نحو التنمية المستدامة”.

*تعزيز الهوية المكانية بدل الهوية الوطنية: جيل جديد ينشأ وهو يرى في غزة أو الضفة “الوطن الكامل” بالنسبة له، دون رابط حقيقي بالآخر.

على المدى البعيد، سيحاول الاحتلال تثبيت هذا الواقع في الوعي الدولي على أنه “حل واقعي” لا رجعة عنه، مع تسويق الفكرة أن الانفصال السياسي والجغرافي هو “خيار الشعب” أو “ضرورة الاستقرار”، بينما الحقيقة أن الأمر لا يعدو كونه تتويجًا لمسار بدأ قبل عقود.

لكن، وكأي مسلسل طويل، هناك دومًا احتمال لمفاجات في الحلقة الأخيرة: كوعي جمعي يرفض الانقسام، ويفرض على الجميع أطرافًا داخلية وخارجية او إعادة كتابة السيناريو.

غير أن السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل سيكون هذا التحول بفعل إرادة داخلية صلبة، أم نتيجة متغيرات إقليمية ودولية خارجة عن السيطرة؟

وفي خلاصة هذه القراءة

الانقسام لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج مسار تاريخي بدأ قبل 1967، وتغذّى من كل محطة سياسية وأمنية وصولًا إلى الانقسام الكامل بعد 2007.

وإذا كان الانقسام السياسي هو الذي أشعل فتيل الانقسام الجغرافي، فإن الاحتلال أدرك مبكرًا كيف يحافظ على الاثنين معًا، ويستثمرهما لصالحه، فيما تبقى النهاية مرهونة بمدى استعداد الفلسطينيين لفرض حل مغاير على أرض الواقع.

شاركها.