الافتقار.. حقيقة العبودية
يقول الحق سبحانه: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. من أخص خصائص العبودية الافتقار المطلق إلى الله، فهـو حقيقتها ولبُّها، وهو ألا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، أما إذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر، فالفقر الحقيقي أن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه. فالمفتقر إلى ربه مجرِد قلبه من كل حظوظها، مقبل بكليته إلى ربه عز وجل، متذلل بين يديه، مستسلم لأمره ونهيه، متعلق قلبه بمحبته وطاعته.
والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى ربه يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد حينما يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعا متذللا، ففي ذلك دلالة جلية على تعظيم الله تعالى وحده، وترك ما سواه من الأحوال، وأرفع مقامات التذلل والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب، مستجيرا بالله منيبا إليه، ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السجود مكان السؤال، ففي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: “أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم”.
ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في ركوعه: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي»، وذلك إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الجوارح، فإذا خشع خشعت الجوارح، ومـن تمام خشـوع العبد لله تعالى في ركوعه وسجوده أنه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجود، وصف ربه حينها بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وَصْفي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصْفك، فهذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سر حياته وأساس إقباله على ربه، فالافتقار حاد يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة، ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين؛ أحدهما: إدراك عظمة الخالق وجبروته؛ فكلما كان العبد أعلم بربه وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقارا إليه وتذللا بين يديه.
فمن تدبر الآيات والأحاديث التي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى، انخلع قلبه إجلالا لربه، وتعظيما لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم}. وفي الصحيح: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون». أما الأمر الثاني: فهو إدراك ضعف المخلوق وعجزه؛ فمن عرف قدر نفسه، وأنه مهما بلغ في الجاه والسلطان، فهو مخلوق صغير عاجز ضعيف، لا يملك لنفسه صرفا ولا عدلا، تصاغرت نفسه، وذلت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه والتجاؤه إليه: {فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر، يوم تبلى السرائر، فما له من قوة ولا ناصر}. والله ولي التوفيق..
*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية الجزائر