أمد/ لحظة تاريخية في مجلس الأمن
في سابقة دبلوماسية برعاية سعوديةفرنسية، شهد مجلس الأمن الدولي مساء أمس إعلان خطوات متقدمة لإحياء حل الدولتين، ترافق مع اعتراف بريطانيا، كندا وأستراليا بدولة فلسطين. هذا التطور، وإن بدا سياسيًا في جوهره، فإنه يستند إلى تراكم قانوني طويل الأمد: من قرار الجمعية العامة 181 عام 1947 (خطة التقسيم)، مرورًا بالقرار 242 لعام 1967 الذي طالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وصولًا إلى التزامات اتفاقيات جنيف التي تحظر ضمّ الأراضي بالقوة.
إعادة الاعتراف بهذه المرجعيات لا يمثل منحة سياسية للفلسطينيين، كما يروّج خصوم الخطوة، بل استعادة متأخرة لاستحقاقات قانونية ظلّت معلّقة لعقود.
السعودية وفرنسا: من الرعاية إلى إعادة صياغة الوساطة
دور السعودية وفرنسا لم يكن بروتوكوليًا. الرياض عادت لتضع على الطاولة جوهر مبادرتها العربية للسلام (2002)، في وقت تسعى فيه لترسيخ موقعها كمحور توازن إقليمي أمام تزايد الضغوط الأميركية والإسرائيلية. أما باريس، فقد قدّمت الاعتراف كجزء من “رهان أوروبي” على إعادة الشرعية لمسار الدولتين، في ظل انسداد سياسي طويل الأمد.
هذه الرعاية المزدوجة تحمل في طياتها ما هو أبعد من إعلان سياسي: محاولة لإعادة تشكيل معادلة الوساطة الدولية بعد فشل أوسلو، وتآكل رعاية واشنطن الحصرية للعملية السلمية.
الصحافة البريطانية: بين “المغامرة” و”جائزة الإرهاب”
رد فعل الإعلام البريطاني عكس الانقسام العميق في الرأي العام:
• The Guardian قدّمت الاعتراف كخطوة نحو ترسيخ السلام.
• Financial Times أبرزت البعد الدولي المتعدد الأطراف.
• في المقابل، Daily Mail وThe Times اعتبرتا الخطوة “جائزة للإرهاب”، وصاغتا السردية من منظور جراح عائلات الأسرى الإسرائيليين.
• Metro وصفتها بـ”المقامرة الكبرى”، ما يعكس المخاوف الداخلية من انعكاسات القرار على المشهد السياسي البريطاني.
بهذا، تحوّل حدث قانونيدبلوماسي إلى مادة سجالية داخلية تُستخدم لتثبيت أو تقويض شرعية حكومة ستارمر.
الصحافة الفرنسية: بين الأخلاق والسياسة
الصحافة الفرنسية أظهرت تمايزًا واضحًا عن نظيرتها البريطانية:
• La Croix قدّمت الاعتراف كلحظة أخلاقية وإنسانية.
• Libération احتفت به كخطوة تاريخية تنهي التردد الفرنسي.
• Le Monde قدّمت قراءة تحليلية لمسار التحول البطيء لباريس، تحت ضغوط داخلية وخارجية.
• أما Le Parisien فقد صاغت الاعتراف كـ”رهان محفوف بالمخاطر”، مع إشارة واضحة إلى حسابات العلاقة مع واشنطن.
هذا التباين يعكس ثنائية فرنسية تقليدية: بين خطاب القيم الجمهورية وخطاب المصالح الجيوسياسية.
القانون الدولي في مواجهة الروايات السياسية
في الجوهر، يبقى الاعتراف بدولة فلسطين تفعيلًا لمبدأ حق تقرير المصير المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. لكنه في فضاء الإعلام تحوّل إلى ساحة صراع سردي: هل هو تكريس للشرعية الدولية، أم تنازل استراتيجي يمنح “حماس” مكسبًا غير مستحق؟
إن ما جرى في مجلس الأمن يفتح نافذة جديدة، لكنه يطرح سؤالًا أعمق: هل تتحول الاعترافات المتفرقة إلى مسار ملزم قانونيًا وسياسيًا، أم تبقى أوراقًا رمزية تُستثمر في لعبة توازنات القوى؟
بين قاعة مجلس الأمن وصفحات الجرائد، يتضح أن معركة الاعتراف بدولة فلسطين ليست فقط قضية سياسية، بل معركة على تعريف الشرعية نفسها: شرعية القانون الدولي من جهة، وشرعية السرديات الإعلامية من جهة أخرى.
وإذا كان الاعتراف المتعدد الأطراف يعيد إحياء حل الدولتين على الورق، فإن ترجمته إلى واقع تفاوضي ستعتمد على ما إذا كان الدور السعوديالفرنسي قادراً على تجاوز إرث عقود من فشل الوساطات السابقة، وإقناع الأطراف المتنازعة بأن القانون الدولي لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل قاعدة ملزمة لمسار جديد.