أمد/ #​مقدمة: وهم السيادة الممنوحة

​منذ نهاية عصر الاستعمار، احتفلت العديد من دول العالم الثالث باستقلالها كإنجاز نهائي، وظنت هذه الدول أن تحرير الأرض ورفع العلم الوطني يمثلان نهاية المعركة وبداية عهد جديد من السيادة والكرامة. ولكن التاريخ أثبت أن الاستقلال السياسي ليس سوى خطوة أولى، وأن السيادة الحقيقية ليست هدية تُمنح أو امتيازاً يُكسب بمجرد التوقيع على وثيقة. بدلاً من ذلك، هي بناء معقد ومستمر، يتطلب جهداً داخلياً لا يقل أهمية عن النضال ضد القوى الخارجية.

​لقد وقعت العديد من الدول في فخ الاعتماد على القوى العظمى والتحالفات الدولية، معتقدةً أن الحماية أو الدعم الاقتصادي يمكن أن يختصر الطريق نحو القوة. لكن هذه الاستراتيجية غالباً ما أدت إلى نوع جديد من التبعية، حيث تم استبدال السيطرة العسكرية بالضغط السياسي والسيطرة الاقتصادية.

في هذا المقال، سنستعرض لماذا تُعدّ السيادة الحقيقية عملية بناء ذاتي، ولماذا لا يمكن أن تُعطى أو تُستأجر، بل يجب أن تُصنع وتُخلق من الداخل.

#​مراحل البناء الذاتي: من الأرض إلى المصنع

​السيادة الحقيقية ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة تطور منهجي يبدأ من أبسط مقومات الحياة. أولى خطوات هذا البناء تبدأ من الأمن الغذائي والزراعة، التي تمنح المجتمع استقراراً أساسياً وتسمح له بالتحرر من التبعية للآخرين في قوته اليومي. فالمجتمع الذي لا يملك القدرة على إطعام نفسه، يظل أسيرًا لتقلبات السوق الدولية وضغوط الدول التي يتحصل منها على غذائه.

​لكن الزراعة وحدها لا تكفي لصناعة القوة والهيبة. وهنا يأتي دور الصناعة كحجر الزاوية في بناء السيادة. فبمجرد أن يتحقق الأمن الغذائي، يتوجب على الدولة أن تنتقل إلى مرحلة الإنتاج المتقدم، حيث تتحول من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج. هذا التحول لا يتعلق فقط بتوفير فرص العمل وتحقيق النمو الاقتصادي، بل هو مسألة وجودية تمنح الدولة قدرة على تصنيع ما تحتاجه، من الأدوات والمعدات إلى الأدوية والأسلحة.

​إن القوة التي تُبنى في المصانع هي القوة الوحيدة التي لا يمكن أن تُشترى أو تُستأجر. فعندما تمتلك الدولة القدرة على الإنتاج، تقل حاجتها للاستيراد وتتزايد قدرتها على التفاوض، مما يترجم مباشرة إلى استقلال في القرار وهيبة في المحافل الدولية.

#​من الصناعة إلى المعرفة: قمة الهرم التنموي

​إن امتلاك المصانع القوية أمر بالغ الأهمية، لكنه ليس المحطة الأخيرة. فمع تسارع وتيرة التطور العالمي، أصبحت القوة الحقيقية لا تقاس فقط بالإنتاج الصناعي، بل بالقدرة على الابتكار وصناعة المعرفة. إن الدول التي وصلت إلى قمة الهرم التنموي هي تلك التي استثمرت في العقول قبل العضلات، وحوّلت جامعاتها ومراكز أبحاثها إلى محركات للنمو والسيادة.

​هذا التحول من الاقتصاد المعتمد على الإنتاج إلى اقتصاد المعرفة هو ما يمنح الدولة مكانة دولية حقيقية. فالقدرة على تطوير التقنيات المتقدمة، وتقديم الحلول المبتكرة، والمساهمة في القضايا العالمية تمنح الدولة ما يُعرف بـ”القوة الناعمة”. هذه القوة لا تعتمد على القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدها، بل على التأثير الثقافي والدبلوماسي والفكري الذي يجعل الدول الأخرى تحترمها وتسترشد بها.

​وهنا تكمن الإجابة النهائية على السؤال: السيادة الحقيقية لا تكتمل إلا عندما تنهي الدولة رحلة البناء الذاتي من الزراعة إلى الصناعة، ثم تتوجها باقتصاد المعرفة الذي يجعلها لاعباً أساسياً في صياغة مستقبل العالم.

#​خاتمة: السيادة تُبنى ولا تُعطى ​في نهاية المطاف، تعود بنا الإجابة على السؤال الذي طرحناه في البداية إلى حقيقة ثابتة: الاستقلال والسيادة الحقيقية لا تُعطى، بل تُبنى. هي رحلة شاقة تبدأ من الأرض، حيث يُحقق الأمن والاستقرار، وتمر عبر المصنع، حيث تُصنع القوة الاقتصادية والسياسية، وتتوج في مراكز البحث، حيث تُخلق المعرفة والمكانة الدولية.

​إن أي محاولة للقفز على هذه المراحل أو الاعتماد على قوى خارجية لنيل السيادة هي وهم يؤدي في النهاية إلى التبعية وفقدان القدرة على اتخاذ القرار. فالتاريخ يعلمنا أن القوة والهيبة لا تُشترى بالمال ولا تُستأجر بتحالف، بل تُصنع بأيدي أبناء الوطن وعقولهم، لتكون مصدرًا للقوة الذاتية التي لا يمكن أن تنهار.

شاركها.