أمد/ في زمن كثرت فيه المؤتمرات وقلّ فيه الضمير، تشنّ الحروب باسم “السلام”، ويقتل الأطفال باسم “حق الدفاع عن النفس”، وتمحى المدن باسم “الردع الذكي”، غزة تلك البقعة الصغيرة التي يعرفها العالم جيداً من شاشات الأخبار، ولكن يبدو أنه نسي أن بها بشراً، أو على الأقل كائنات حيّة.

المجتمع الدولي، هذا الكائن الأسطوري الذي يتحرك بسرعة الضوء حين يجرح إصبع أميركي، ويصاب بالشلل النصفي عندما يقتل ألف طفل فلسطيني، ما زال “قلقاً”.. نعم، ما زال القلق ينهش وجدانه كلما سمع عن قصف جديد أو مجزرة جديدة، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً لأن “الأوضاع معقدة”.

أما البيانات، فتضخ يومياً بكميات تكفي لإعادة إعمار القطاع لو كانت تحول إلى طوب بدل الحبر.. بيانات تنديد، استنكار، دعوات لضبط النفس (لكن فقط من الطرف المحاصر الجائع)، وعبارات إنسانية دافئة مثل “الوضع غير مقبول” وهو ما يقال عادةً عندما يتأخر طلب البيتزا، وليس عندما يدفن 40 شخصاً تحت أنقاض منزلهم.

المنظمات الإنسانية وما أكثرها! — تصدر تقارير بديعة التصميم، غنية بالرسومات البيانية، عن نسب سوء التغذية في غزة، تعتذر لعدم قدرتها على إدخال المساعدات بسبب بعض “العوائق اللوجستية”، كأن تلك العوائق ليست صواريخ، وقنابل ذكية، وطائرات تحلق في سماء الخوف ليل نهار.

الغرب المتحضر، الذي علّمنا أن حقوق الإنسان لا تجزأ، يبدو أنه نسي أن للفلسطينيين أي حقوق، لا بأس، ربما لم يجدوا لهم خانات في جداول الإحصاءات، فالإنسانية هناك تقاس بالهوية، إن كنت مواطناً في “الدول الصحيحة”، فأنت تستحق البكاء والغضب والتعاطف، أما إن كنت فلسطينياً، فأنت مجرد “عدد”، “طرف”، أو في أحسن الأحوال “مادة للنقاش الأكاديمي”.

والأكثر إبداعاً هم أولئك الذين ينادون بوقف إطلاق النار “المؤقت”، لأسباب إنسانية، هدنة تسمح بمرور شاحنتين من الطحين، بينما يقصف مستشفى، هدنة تنتهي دوماً قبل أن تصل سيارة الإسعاف إلى آخر الضحايا.

في النهاية، لا يسعنا إلا أن نحيّي هذا العصر الذهبي للإنسانية الانتقائية، حيث يقاس الألم السياسي بالخارطة، وتوزّع الكرامة كما توزّع تأشيرات السفر، بعد فحص دقيق، وبموجب موافقة أمنية.

غزة لا تحتاج إلى المزيد من الخطابات، ولا تحتاج إلى دموع مصطنعة على شاشات HD، فغزة تحتاج فقط إلى أن يتوقف العالم عن الكذب باسم الإنسانية، لأن أسوأ الجرائم ليست تلك التي ترتكب بالصواريخ، بل تلك التي ترتكب بالصمت.

شاركها.