أمد/ في أكثر المراحل قسوة التي عرفتها غزة، وفي الوقت الذي انفجرت فيه الجماهير تحت ثقل الحرب والجوع والضياع، اختار جزء كبير من الإعلام العربي أن يُشيح بوجهه عن الوجع الحقيقي، وأن يمدّ الضوء نحو الزوايا الأكثر ضحالة. بدا وكأن القضية تُعرض لا بلسان أصحابها، بل بلسان وكلاء يملكون الحضور اللامع لا المصداقية.

ليس سرًا أن بعض المبادرات والأسماء التي لا تجد احترامًا في شوارع غزة، ولا تمرّ على لسان أهلها إلا مُحمّلة بالتهكم أو اللعن، تحوّلت فجأة إلى “نماذج مضيئة” في أعين فضائيات عربية كبرى. أشخاص لفظتهم الجماهير لفظًا، فإذا بالإعلام يلمّعهم حتى حدود التكريم، وكأن معيار الاختيار لم يعد الانتماء إلى الناس، بل القدرة على صناعة مشهد يوافق ذائقة المحرّر لا نبض الواقع.

الأمر لا يختلف مع سياسيين انتهت صلاحيتهم منذ سنوات، سقطوا من حسابات أصغر طفل فلسطيني، لكنهم يعودون إلى الشاشات العربية باعتبارهم “قيادات مؤثرة” و“أصواتًا تمثّل الشارع”. هنا فقط يدرك المتابع أن بعض المنابر لا تبحث عن الحقيقة، بل عن صورة تتناسب مع خطها التحريري، حتى لو جاءت هذه الصورة على حساب كرامة مجتمع بأكمله.

والأدهى أنّ أشباه إعلاميين، لم يعرفوا يومًا لغة الشارع أو حرارة الميدان، صاروا “محللين استراتيجيين” و“خبراء سياسيين”، يحدّدون مستقبل غزة من مقاعد مكيفة، دون أن يسمعوا مرة واحدة صرخة نازح في خيمة، أو أن يتذوقوا مرارة طابور خبز. وهكذا تشوهت صورة الغزّي الحقيقي: المقاوم بصمته، العنيد بكرامته، الصلب بوجعه.

وعلى النقيض، حين يجرؤ موقع إعلامي عربي محايد على نقل المشهد كما هو، بلا رتوش ولا ولاءات، تُفتح عليه أبواب الشتائم والتشويه والاتهامات. كأن نقل الحقيقة أصبح خيانة، فيما تجميل الوهم بات بطولة قومية.

ورغم أن الإعلام العربي يملك من الميزانيات ما يكفي لبناء دول لا برامج، إلا أنه يتحرك اليوم في مستوى من التردّي لا يليق بعمقه ولا بامتداده. وهنا يتولد السؤال الذي يخشاه الجميع:
هل نحن أمام منهجٍ مقصود لصناعة الرواية المشوهة؟ أم أن هذا الفساد هو وجهٌ آخر من وجوه عجزٍ قديم رافق الأمة منذ بداياتها؟

في النهاية، تبقى غزة أكبر من كل الشاشات، وأصدق من كل الروايات المصنوعة.
صوت الناس لا يعلو عليه صوت، وإن خفت في الإعلام، سيبقى مدويًا في الأرض التي تعرف جيدًا من معها ومن عليها.

شاركها.