اخر الاخبار

الإعراض عن اللغو حال أهل الإيمان

يقول الحق سبحانه: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}. قال الرازي في مفاتيح الغيب: اللغو: ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره، كانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه، بل يعرضون عنه إعراضا جميلا، فلذلك قال تعالى: {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}.

والحقيقة أن هذا حال أهل الإيمان، فهم لا يقفون عند اللغو، بل يهجرونه ويتقونه، ورد عند الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: “إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون”، فالثرثار: كثير الكلام، وفي الصحيح: “إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال”.

ومن هنا، فعلى المسلم أن يقلل الكلام قدر الاستطاعة: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”، والمراد: إن استوى عندك الوجهان في الكلام ولم تدر أفي الكلام خير أم ليس فيه خير لزمك الإمساك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “فليقل خيرا أو ليصمت”. وأيضا فليعلم أن الكلمات تسطر، وأنها تكتب: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} أي: قول يسطر ويكتب. كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مرض موته يئنُّ منه أنينًا، فقيل له: يا إمام، إن طاوسًا يقول: إن الأنين يكتب، يعني لقول الله تبارك وتعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} فيقول الراوي: فما أنّ الإمام أحمد رحمه الله تعالى حتى مات.

ويقول رب العزة سبحانه: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}، ويقول أيضا: {وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون}. فالكلمات تكتب، فلأن تأتي صحائف أعمالنا يوم القيامة نقية بيضاء، خير لنا من أن تأتي صحائفنا وقد ملئت باللغو واللغط، واغتياب المسلمين وربما الطعن في الأعراض، والنميمة، والتفوه بما لا يليق.

ثم إن كثرة الكلام تُذهب البهاء، وتزيل الوقار، وتزري بالأشخاص، فإن كان لزاما من كلام، فليكن بذكر الله تبارك وتعالى، والصلاة على سيد الأنام، وقلة الكلام تدعو إلى الاهتمام بكلامك والاستماع إليه، ومن ثم كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يعظ الناس كل خميس، فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن، وددت أنك حدثتنا كل يوم، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إني أكره أن أُمِلَّكُم، وإنما أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهية السآمة علينا).

وهذا سيد الخلق كان يتكلم كلاما لو عدّه العاد لأحصاه، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم كلاما لو عدّه العاد لأحصاه، لم يكن يسرد الحديث سردا كسردكم). وتتأكد قلة الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا كان كذلك فليمنع حينئذ، فهذه مريم عليها السلام لما أتت قومها بعيسى عليه السلام تحمله، وهي تدرك أن القوم لن يصدقوها إذا تكلمت؛ لأنه لا يتصوّر أن تلد امرأة بلا زواج، لكن الله على كل شيء قدير، فعند ذلك قال الله لها: {فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا}.

وهؤلاء الفتية أصحاب الكهف العقلاء المسدّدون الموفقون، لما قاموا من نومتهم التي ناموها: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم}، فتدخل أحدهم قائلا: {ربكم أعلم بما لبثتم}، أي: لا داعي لمواصلة الكلام في اللبث الذي لبثناه. فإذا لم يكن في الكلام فائدة فليمنع حينئذ، أما إذا كان الكلام بغير علم فتلك الطامة الكبرى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، فيؤمر الشخص بالإمساك عن الكلام إذا لم يكن عنده علم بما يتكلم به، ويؤمر بالإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة فذاك أسلم لدينه.. والله ولي التوفيق.

* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية الجزائر1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *