أمد/ تبنّى مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغّر صباح الجمعة، اقتراح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالمضي قدماً في احتلال الجزء المتبقي من قطاع غزة، والذي يضم مدينة غزة والمنطقة الوسطى في تطبيق للأجندة الأكثر تطرّفاً بالحكومة والشارع الإسرائيلي، والمتعارضة مع رؤية قيادة الجيش والنخبة الأمنية سابقاً ولاحقاً، التي لا ترى أية فائدة عسكرية من الخطوة بعد تحقيق الأهداف الممكنة كافة، ومنع القطاع من تهديد الدولة العبرية استراتيجياً، في حين قد يغرق الاحتلال الجديد الجيش بالمستنقع الغزاوي ويهدد حياة الأسرى الإسرائيليين، مع المزيد من التدمير والضحايا المدنيين، ويدحرج الأوضاع باتجاه حرب أبدية ليس فقط في قطاع غزة؛ وإنما في الضفة الغربية مع تسارع خطوات التهويد والاستيطان والضمّ، وربما في المنطقة برمتها في ظل تبني سياسات عدائية في سوريا الجديدة وحتى لبنان الجديد، لمنع سيرورة بناء الدولتين وإبقائهما في حالة فوضى وانهيار.

 

احتلال كامل

إذن، تبدو إسرائيل في طريقها لاحتلال كامل قطاع غزة مع إصدار المجلس الوزاري الأمني المصغّر أمراً صريحاً للجيش بالمضي قدماً في تنفيذ الاحتلال الكامل، علماً أن الجيش يسيطر الآن على 75 بالمائة من القطاع، وقام بحشر أكثر من 2 مليون فلسطيني بما تشبه المعازل يريد تحويلها رسمياً إلى معسكرات اعتقال في الجنوب والوسط والشمال وعلى ربع مساحته؛ أي على 90 كلم تقريباً.

يتعلق الأمر الجديد هذه المرة بالاحتلال المباشر لمدينة غزة التي تضم قرابة مليون فلسطيني من سكانها والنازحين إليها من محافظة الشمال بيت حانون، بيت لاهيا، وجباليا البلد والمخيم التي دُمرت كما رفح وخان ويونس بنسبة تلامس الـ100 بالمئة. هذا إضافة إلى المنطقة الوسطى بمخيماتها الثلاث، النصيرات والمغازي ودير البلح المخيم والبلد وهي المناطق التي لم يقم الجيش باجتياحها بعد نظراً لوجود الأسرى الإسرائيليين فيها، ولعدم تشكيل خطر مباشر على حياتهم.

 

إرضاء المتطرفين

جاء القرار الجديد إرضاءً من نتنياهو لحلفائه المتطرّفين، وحفاظاً على الحكومة من السقوط قبل نهاية الدورة الصيفية للكنيست، وضمان البقاء في السلطة لأبعد مدىً زمني ممكن، وإطالة أمد الحرب للتهرّب من لجنة التحقيق الرسمية في أحداث 7 تشرين أول/ أكتوبر والانتخابات العامة التي تُجمع استطلاعات الرأي على خسارة الائتلاف الحكومي الحالي فيها.

إلى ذلك جاء القرار لافتاً كذلك لجهة ترتيب الأولويات الخمس، ولأول مرة يُقدّم نزع سلاح حماس على استعادة الأسرى، مع الإشارة إلى نزع سلاح القطاع كله، وفرض السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة عليه، وتسليمه لحكومة أو إدارة مدنية بإشراف عربي دولي لا تتبع حماس أو السلطة الفلسطينية.

يفترض أن يُنفذ القرار على نحوٍ متدرج يلحظ حصار مدينة غزة أولاً، ومنع إدخال المساعدات إليها لإجبار أهلها على المغادرة حتى 7 تشرين أول/ أكتوبر القادم؛ أي خلال شهرين، وهو ما سيجري أيضاً تجاه المنطقة الوسطى، لكن من دون الدخول أو اقتحامها مباشرة أقله في الفترة الأولى شهرين إلى ثلاثة التي سيجري التركيز فيها أكثر على العاصمة صاحبة أكبر كتلة بشرية ونصف سكان القطاع تقريباً.

 

تشريع منظمة غزة الإنسانية

يعني تنفيذ هذا المخطط، تفريغ ثلث مساحة القطاع، غزة والشمال، تماماً من السكان وتحويلها عملياً إلى منطقة عازلة مفتوحة نموذج رفح وبالتالي حشر 2 مليون في الوسطى والمواصي بين رفح وخان يونس؛ أي في أقل من سدس مساحته تقريباً، ونظرياً إبقاء الباب مفتوحاً أمام مخططات الاستيطان والتهجير.

يجب الانتباه كذلك إلى تدرج تنفيذ القرار إثر ضوء أخضر أو برتقالي من واشنطن، لكن شرط تحسين الوضع الإنساني العام بالقطاع، بمعنى أن حصار غزة أولاً ثم الوسطى يستلزم إدخال المساعدات بكثرة، وإغراق بقية الجنوب 600 ألف فلسطيني بإشراف أميركي مباشر، ورفع نقاط التوزيع الحالية من 4 إلى 16، في الوقت الذي يظل فيه الرقم متواضعاً قياساً إلى 400 نقطة للأمم المتحدة، وهو ما يعني من جهة أخرى تشريع منظمة غزة الإنسانية سيئة الصيت.

يرفض أو للدقة يتحفظ الجيش على القرار لأسباب عدّة، بعد أن طلب عدم اقتحام المناطق المستهدفة؛ بل تطويقها ومحاصرتها، وإجبار أهلها على التهجير، لكن من دون اقتحام واسع واحتلالها تماماً؛ بل عزلها وتوسيع المحاور التي أقامها في القطاع، مع إعادة السيطرة على نتساريم الذى يفصل القطاع من الحدود شرقاً إلى البحر غرباً، إضافة إلى طرح أسئلة عمن سيشرف على كتلة من 2 مليون فلسطيني بالوسط والمواصي، وهو ما يرفض الجيش فعله.

 

التضحية بالأسرى

إلى ذلك تعني العملية من وجهة نظر الجيش التضحية بالأسرى (الجنود) المتبقين، وهو الأمر الذي لا تستطيع قيادة الجيش وعناصره المضي قدماً به، مع قناعتهم التامة باستحالة استعادتهم أحياء بوسائل عسكرية؛ وإنما باتفاق سياسي فقط.

كما يعود رفض أو تحفظ الجيش لافتقاده للقوى البشرية اللازمة للاحتلال التام بدلاً من السيطرة الفعلية على المحاور والمنطقة العازلة، حيث يحتاج إلى 250 ألف جندي على الأقلقد يرتفع إلى 450 تقريباً، وهذا رقم كبير في ظل استنزاف الاحتياط والنظاميين، وسعي نتنياهو لمواصلة تهرب المتدينين من الخدمة. 

 

رفض جماهيري

احتلال غزة كلها لشهور وسنوات يستنزف الجيش في جبهات أخرى، مع تذاكي واستبعاد مصطلح الاحتلال واستبداله بسيطرة للهروب من التبعات الداخلية والخارجية، ولا سيما القانونية لجهة تحمل المسؤولية الكاملة عن الغزيين، وتوفير مستلزمات الحياة لهم.

داخلياً ثمة رفض واسع لقرار الحرب جماهيرياً وشعبياً، التي لا أهداف لها محددة وقابلة للتحقيق، مع التذكير برسالة مئات المسؤولين الأمنيين السابقين للرئيس دونالد ترامب يملكون مجتمعين خبرة 1000 سنة وتأكيدهم استنفاد الخيار العسكري، وتدمير القطاع ومنعه من تهديد إسرائيل، وإشغاله بنفسه لسنوات بل عقود طويلة.

خارجياً ثمة ردود فعل غاضبة ورافضة جداً عربياً ودولياً، وبوجه خاص مع تزامن القرار مع تسونامي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما يعني أن عزلة إسرائيل ستتفاقم مع فرض عقوبات تطال تصدير السلاح، كما رأينا من حلفاء تقليدين مثل ألمانيا. 

في الأخير، يجب الانتباه إلى ردود الفعل الفلسطينية والتشابه التام في الخطاب بين السلطة وحماس لجهة الإجماع على رفض القرار، ومطالبة المجتمع العربي والدولي بالتدخل لمنعه. غير أن هذا على أهميته بمنزلة وضع العربة أمام الحصان، كون الخطوة الأولى فلسطينية بامتياز تشمل تسليم التفاوض للسلطة والقيادة الرسمية على علاتها، والتوافق على سيناريو اليوم التالي، والخطة المصرية العربية الدولية، وتشكيل لجنة إدارية مؤقتة، وانتشار قوات أمن فلسطينية في غزة مدعومة عربياً ودولياً، لحين التوافق على حكومة جامعة وفق أولوية وقف الإبادة، والمضي قدماً في الخيار السياسي وملاقاة التسونامي الدبلوماسي بقيادة شرعية وموحدة.

المدن

شاركها.