إيران، تركيا، إسرائيل.. تبدل المواقع
أمد/ من الواضح أن هناك ثلاثة مشاريع ناضجة المعالم والخطة ومحددة الأهداف في المنطقة رغم تخبط بعضها بين الايدولوجيا والجغرافيا، وتعثر بعضها في انحيازات للمؤقت و تراجع الاستراتيجي.. و هذه المشاريع هي: المشروع الصهيوني، والمشروع الإيراني، والمشروع التركي.. والتعارك القائم بينها يقوم على الأرض العربية في ظل غياب المشروع العربي العملي بعد أن فشلت المحاولات العديدة في أكثر من مكان في صياغة مشروع عربي وقد تشظّت الى بقايا حزبية أو فكرية متيبسة بعد أن مرت بمرحلة دولة قطرية عجزت عن التمدد الطبيعي وقد فشلت في تحقيق الحدود الدنيا من حرية المواطنين ووحدتهم ونهضتهم والتصدي لعدو الأمة..
اختلال المواقع وارهاصات المستقبل:
ما حصل منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن إنما هي عملية قيصرية دامية لتعديل مواقع المشاريع الإقليمية.. فلقد جاءت ضربة الطوفان لتخلخل مواقع النفوذ في الجغرافيا السياسية، واستمر الإحساس بالفوضى لدي قادة المشاريع وأصبح الجميع وكأنه في حالة ركوب القلق، في حالة الإحساس بالخطر الوجودي وغاب عن كل الأطراف وأصحاب المشاريع الإقليمية الاحتمالات المفاجئة.. وفي خلال سنة الملحمة كاد الأمر يبلغ خطا متماسكا بانخراط اليمن ولبنان والمقاومة العراقية في الإسناد لمقاومة الشعب الفلسطيني إلا أن تداعيات ميدانية ومحلية دفعت بالمقاومة اللبنانية إلى الانسحاب على الأقل مؤقتا الأمر الذي افقد خيار المقاومة المسلحة أهم قوة عسكرية فيها.. إلا أن التغير في الوضع السوري قلب الطاولة على كل الحسابات وأعاد من جديد تحديد ساحات النفوذ للمشاريع الإقليمية..
في محاولة لدراسة سياقات المشاريع الإقليمية وتصادمها وتوزع نفوذها من جديد من المهم استعراض واقعها ولو بتركيز شديد وملاحظة المسافة بين بدايات الانطلاق ومحطات الوصول الحالية فلعل قراءة السياق تشير الى مآلات لكل من هذه المشاريع.
المشروع الصهيوني:
من الضروري التأكيد على طبيعة المشروع الصهيوني على اعتبار أنه أحد أدوات النظام الدولي الجديد الذي انطلق من نهايات القرن التاسع عشر وهو إن استطاع بمساعدة الإعلام العالمي المسخّر والسياسات الدولية المشرفة والموجهة للمشهد وضخ الأموال والسلاح وترتيبات في الإقليم أن يقيم الكيان الصهيوني وهو بذلك حقق نجاحا واقعيا الى أمد.. لكن المشروع الصهيوني فشل في أن يتواصل بعد مائة عام لتحقيق الهدف الحقيقي له فبعد ان تم تحديد جغرافيا الكيان الصهيوني وتم توقيع اتفاقيات حدود مع دول الجوار مصر ولبنان والاردن فقد المشروع بريق الدولة الكبيرة التي تسيطر على المشرق العربي، كما أن الكيان الصهيوني فشل في ايجاد الشخصية الاسرائيلية رغم ما يبذل في هذا الصعيد عبر عشرات السنوات فلا الثقافة ولا الأمن ولا مناهج التعليم استطاعت ان تصهر الوافدين اليهود في شخصية واحدة ولقد برز بوضوح التمايز العرقي بين اليهود والتكتلات المتنازعة، ثم مع مرور عشرات السنين لاحظنا بسهولة انشطار المجتمع الصهيوني الى تيارين كبيرين، الأول: التيار العلماني الذي يؤمن بان ” الدولة الصهيونية” علمانية وهي حليف طبيعي للغرب وانها نموذج غربي في المنطقة وان التداخل مع الغرب يعني أنها جزء من المشروع الغربي.. وتيار آخر: تيار ديني متطرف تنامي في العشريات السابقة وتطور من اليمن الى ما بعد اليمين وهو تيار منغلق بتأويلات دينية متطرفة وهو يصارح في أنه شيء آخر غير الغرب وان كان يبحث عن مساعدة الغرب فهو يطمح لإحياء روح المشروع الصهيوني الذي اخذ في التلاشي رغم ان المشروع الصهيوني لم يكن دينيا انما علماني ملحد.. وكذلك نقل الدولة من علمانية بمؤسسات الى دولة دينية بحكومة تشكل المؤسسات حسب توجهاتها الإيديولوجية.. وهذا التيار لا ضوابط له إلا رؤيته الخاصة ومصالحه الايديولوجية الخاصة وهو تيار يعيش الأزمة العميقة ليس فقط مع التيار الآخر العلماني مما يهدد بانشطار المجتمع الصهيوني، بل تمتد الأزمة إلى علاقته بالدولة فهو من جهة متطرف بعنف نحو السيطرة على كل فلسطين والتوجه الى المحيط لتوسيع الدولة الا انه يتحلل من اشتراطات الدولة في التجنيد والالتزامات المستحقة نحو الدولة.. كما أن هذا التيار ورغم عدم قدرته على الاستقرار على خط سياسي واضح نحو الغرب فهو يعرض العلاقات مع النظام الدولي الى اهتزازات قد تمهد الانقضاض على الكيان جملة، فالغرب وأمريكا لا يمكن تجاهل حقيقة إنهما من أقام الكيان الصهيوني ولكن أيضا لا بد من إدراك أن هناك حدودا لحركية هذا الكيان في المنطقة وان ذلك كله لابد أن يكون محسوبا بما يحقق الأهداف الاستعمارية ليظل الكيان أداة للنظام الدولي أمنيا واستراتيجيا لان حساسية المنطقة قد تتحول حسب رأي الدهاقنة الكبار الى انفجارات غير متوقعة تودي بالكيان الصهيوني ومصالح مموليه.. في حمى التناقض الداخلي وفي قلق الممولين واجه الكيان الصهيوني ضربة عنيفة من قبل المقاومة الفلسطينية جعلت أعضاء الكيان ومموليه على حافة التساؤلات الوجودية وطرح الموضوع من جديد حول قدرات الكيان على الاستمرار.
المشروع الايراني:
انطلق المشروع الإيراني بشعارات تعبر عن مبادئ صنّاع الثورة الإيرانية سياسيا ودينيا فعلى الصعيد السياسي وضع المشروع الإيراني نصب عينيه مواجهة التواجد الأمريكي في المنطقة والسياسة الأمريكية الاستعلائية نحو المنطقة فكان شعار الموت لأمريكا هتافا يهتف به العامة والخاصة في ايران كما احتلت مواجهة المشروع والكيان الصهيونيين المكان البارز من الخطاب السياسي الإيراني.. ومنذ البداية وجدت حركات المقاومة الفلسطينية دعمها من قبل الثورة الإيرانية وأظهرت المؤسسات الإيرانية اهتماما بالغا بالقضية الفلسطينية ولم تقف موقف المتفرج او المحايد او المساند فقط بل والمتخذ مواقفا واضحة لا تلعثم فيها فهي ان ايدت تيار المقاومة فهي هاجمت تيار التسوية السلمية، وفي كل الأحوال كانت القضية الفلسطينية بشكل عام جوهر الخطاب السياسي الإيراني على مدار عشرات السنين.. ودينيا اجتهد القادة الايرانيون تقديم مشروعهم على انه مشروع نهضة للأمة ووحدة لها وان الاسلام جامع لطوائفهم واعراقهم.. وكان شعارهم “ايها المسلمون في العالم اتحدوا” وجعلوا من اخر جمعة في رمضان يوما للقدس بكل معانيها.. لكن المشروع في بدايات انطلاقه ووجه بحرب مفروضة 8 سنوات قاسية اوقعت خسائر فادحة بايران لاسيما على صعيد القادة ولكن يبدو أن الأخطر سقوط بعض الافكار او الاضطرار الى اعادة ترتيب الاولويات والخطة.
انتقل مشروع الثورة الاسلامية في ايران من اطار التبشير بأفكاره الى التواجد البشري والتعامل في تعقيدات المنطقة كما اتضح في الدور الايراني في افغانستان والعراق حيث اختلط صحيح التصرف بعبثه وخرج المشروع الايراني من طهر الشعارات والمباديء الى نجاسة الواقع واشتراطاته في التعاطي مع تقدم الوجود الامريكي في افغانستان والعراق.. وجاء الدور في سورية ليمثل المقتل للمشروع الايراني فرغم كل التبريرات التي يقدمها الايرانيون وحلفاؤهم في حزب الله لضرورة قيامهم بنصرة النظام السوري الى انهم ذهبوا عميقا في هذا الاتجاه وقد تركوا في الوجدان الشعبي السوري ندوب عميقة ليس سهلا تجاوزها، فلم يأت الخطأ من التحالف مع النظام انما من جهة مشاركة النظام في قتل المواطنين وقهرهم وتدمير مدنهم وقراهم وتهجير عشر ملايين سوري عربي سني من جهة، ومن جهة أخرى محاولة ابراز حضورهم الطائفي في دمشق والمدن السورية الأخرى من خلال نشاطات المليشيات التابعة لايران من الحزب والفاطميين والزينبيين وعصائب الحق حيث اصبحت الطقوس الطائفية سلوكا يتنامى حتى في المساجد التاريخية لاهل السنة كالمسجد الأموي وفتح باب تشييع الناس على مصراعيه الامر الذي أثار حفيظة الناس وكان فرصة لكل محرض.. كان الايرانيون ينشئون القواعد العسكرية في لبنان وسورية على أمل أن تكون الجبهة السورية واللبنانية الخط الامامي للثورة الايرانية في مواجهة اهداف الكيان الصهيوني المتمثلة بعدم السماح لتمتع اي دولة اقليمية بتفوق او تكافؤ لاسيما في مجال التقنية العسكرية..
من هنا كانت خسارة ايران جسيمة في فقدانها الساحة السورية نهائيا حيث ليس من أي احتمال لامكانية تفاهمات مع الساسة الجدد في سورية كما أن انسحاب الحزب من الحرب وخضوعه الى قرارات أممية وتوجهات الدولة اللبنانية التي تجد حاليا في تغيير النظام السوري فرصة للتحرر من سطوة الحزب وهيمنته على المشهد اللبناني ومحاولة الزعماء اللبنانيون اعادة صياغة توزيع النفوذ الطائفي بناء على التغيرات الحاصلة في سورية.. وبهذا تكون ايران خسرت ساحتين ملتبستين مركزيتين في مواجهة الكيان الصهيوني سورية ولبنان بعد ان ادركت ايران ان النظام السوري ليس في وارد السماح للمقاومة ان تتحرك من جنوب سورية.. ويبدو ان الوجود الايراني في العراق لن يكون سهلا في الاشهر القادمة..الامر الذي يعني انكفاءة صادمة ومفاجئة للمشروع الايراني وتحوله من مشروع ثوري على مستوى الامة الى مشروع لبناء دولة اقليمية قوية.
المشروع التركي:
علاقة تركيا بالمنطقة تاريخية فلقد بسطت السلطنة العثمانية سيادتها على المنطقة مئات السنين وكانت في كل تلك القرون تعتبر المنطقة من صلب ممالكها.. ورغم مائة عام مرت على القطيعة مع العرب التي فرضت على تركيا من قبل النظام الدولي الجديد عاد الحديث الى العلاقة بالمنطقة ليس فقط بسبب هذا البعد الروحي انما لحسابات جيوسياسية واقتصادية بالغة الاهمية.
وكان تيار العدالة والتنمية بما يحمل من مشاعر اسلامية تظهر احيانا في زوايا الخطاب السياسي لقادة الحزب.. ولاقى ذلك استحبابا بالغا لدى التيارات الاسلامية في المنطقة العربية وقدم الحزب لكثير منهم ايواء في ظروف قاسية ومنابر لاعلامهم في مراحل صعبة.. واصبح تيار الاخوان المسلمين العالمي ميل عاطفي جارف نحو تركيا واصبح الاستثمار المالي بابا واسعا لاموال الحركات الاسلامية وكانت تركيا الجار الحيوي للمنطقة العربية يراقب بدقة ما يحصل في سورية التي لم يجد اهلها من ملجأ الا تركيا فنزح اليها ملايين السوريين.
كان دخول تركيا في الملف السوري تفصيليا منذ اليوم الاول للأزمة السورية وكانت تركيا وقطر في خطة عمل واحدة منظمة وبرضي واضح من دول عالمية وكانت هناك مصالح إستراتيجية لقطر وتركيا ومصالح كذلك تكتيكية للأمريكان والأنظمة السياسية الغربية.
الا ان تركيا في تكوين سياستها ليست مستقلة فهي عضو في الناتو وتدخل كل معاركه كما حصل في ليبيا وفي أوكرانيا الآمر الذي يعني ان تركيا لا يمكن ان تتحرك لصالح الامة إقليميا فيما هي تباشر مهماتها في حلف الناتو حيث ان التواجد العسكري التركي هو الأكثر بروزا.
حاولت تركيا الخروج بأكثر المكاسب وأقل الأضرار من الأزمة السورية التي بدأت تلقي ظلالها على النسيج الاجتماعي التركي وعلى خريطة توزيع القوى السياسية في اسطنبول.. الا ان النظام السوري لم يقبل الجسور الممدودة من النظام التركي الأمر الذي كان احد أسباب سقوط النظام المدوي..
واضح الآن أن إيران تحتل مواقع ايران في سورية وقد يمتد نفوذها الى لبنان وليس بعيدا الكلام عن علاقة تركيا بالحركات الإسلامية الفلسطينية وبالسلطة الفلسطينية بمعنى ان الذي حصل يتمدد بتركيا في داخل المنطقة بشكل كبير.
علاقة المشاريع ببعضها:
المشروع الصهيوني المنكفئ والمحبط حدد منذ البداية معركته ضد المشروع الإيراني المثخن بجراحه، وهو لن يتوقف عن التهييج والتحريض ضد ايران واستغلال الإدارة الأمريكية في شد الخناق على الاقتصاد الإيراني وعلى تتالي العقوبات والوصول الى تفاهمات لضرب المنشآت الإيرانية.. فيما يرى المشروع الإيراني ضرورة التراجع للداخل الايراني وهذا يتوارد على لسان كثيرين من القادة الإيرانيين الذي تبدو الخيبة والهزيمة في لحن قولهم.. وتكون تركيا تقدمت في سورية وانتشر مستشاروها وخبراؤها في المساعدة للنظام الجديد في البنية التحتية الاقتصادية والسياسية و هنا ما يثير حفيظة قادة الكيان الصهيوني الذين يرون الحضور التركي في سورية بعين الحذر الشديد.. ولقد جاءت بعض تصريحات أردوغان عن استعداده للتدخل لنصر غزة وتحرير بيت المقدس لتدق ناقوس الخطر في الكيان الصهيوني.. صحيح أن الموقف التركي تشده ارتباطات دولية عديدة تجعل كلامه غير مجدي.. ولكن الى متى؟
من الواضح ان الأحداث الأخيرة في سورية كانت امتحان للمشاريع الثلاثة، اخرجن ايران وحزب الله من المسرح، وأدخلت تركيا بقوة، كما انها جاءت لإحداث فوضى مرهقة لقادة الكيان الصهيوني الذين لن يثقوا بتصريحات قادة سورية الجدد بل هم في حالة شك قوي تعززه تصريحات الأتراك وهنا يرى كثير من الاستراتيجيين الصهاينة ان المسألة مسألة وقت حتى يتمكن الأتراك من التقدم بسلاحهم وعتادهم بالإضافة لجيش سوري تبنيه الأجهزة التركية.. بمعنى ان معركة وجها لوجه بين إسرائيل وتركيا هذا ما يثيره الصهاينة وما توحي به تصريحات أردوغان في مناسبات وفي غير مناسبات.
هل يظل وجودنا العربي ممزقا فاقدا لعجلة الحركة ودينمو التحريك؟ هل يظل المشروع العربي أقرب للحلم منه الى واقع الناس.. وهل تكون قيادة سورية قادرة على ترتيب الأولويات بحيث لا تقع في اخطاء النظام السابق في عدم ضبط حدود التحالف مع الاخرين؟ سيكون على اجابتها مفاعيل كبيرة في المنطقة العربية.. وللحديث عن المشروع العربي مجال غير هذا المجال.. إن الله غالب على أمره.