إسرائيل في ظل السابع من أكتوبر وحرب الإبادة على غزة
أمد/ تهدف هذه المقالة إلى تقديم قراءة أولية لملامح التغيير الجاري في إسرائيل، بعد أحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب إبادة جماعية ودمار شامل في قطاع غزة، كما تشمل تشخيصاً لحالات الأمن والسياسة والاقتصاد، ورصداً للمتغيرات التي حدثت فيها بتأثير الحرب. فقد هزّت صدمة 7 تشرين الأول / أكتوبر والحرب على غزة، الكيان الإسرائيلي برمّته، ووصلت الرجّات الارتدادية إلى جميع أركانه ومركّباته ومكوناته المادية والمعنوية.
النص الكامل:
الإبادة الجماعية والدمار الشامل والتهجير القسري
بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر اجتاحت المجتمع الإسرائيلي موجة غير مسبوقة من الرغبة في الانتقام والثأر،[1] كانت المحرّك والدافع لآلة الحرب العملاقة إلى القيام بعمليات إبادة جماعية ودمار شامل ضد أهالي قطاع غزة. ولم تخرج سوى بعض الأصوات على هامش الهامش، تعارض هذه الجرائم،[2] وإنما ساد عملياً إجماع داعم ومساند ومشجّع على المذبحة الكبرى وعلى مزيد منها.
من الواضح أن القيادتين الأمنية والسياسية في إسرائيل أرادتا إرواء تعطّش الشارع الإسرائيلي إلى الانتقام، علاوة على التعويض عن فشلهما في 7 تشرين الأول / أكتوبر، إلاّ إن الهدف الكبير كان التهجير وجعل القطاع منطقة غير صالحة للحياة البشرية كي يندفع الناس اضطراراً إلى “هجرة طوعية” نحو سيناء. وجرت محاولات إسرائيلية وأميركية حثيثة لإقناع مصر بفتح أبواب التهجير،[3] لكن مصر عارضت ذلك بشدة. وبعد 7 تشرين الأول / أكتوبر، عاد التهجير إلى المركز،[4] بعد أعوام طويلة من بقائه على هامش السياسة الإسرائيلية.
لقد قامت الدولة “اليهودية الديمقراطية” على أساس التهجير، ولولاه لما كانت يهودية ولما كانت ديمقراطية، لأن هناك أغلبية عربية في فلسطين التاريخية. وبعد تهجيرَي 1948 و1967، بقي مشروع التهجير مجمّداً وساد خطاب في إسرائيل فحواه أن هذا المشروع غير قابل للتنفيذ. ولعل من أهم التغييرات التي جاءت بها هذه الحرب هي عودة التهجير إلى مركز السياسة الإسرائيلية، مترافقاً مع نشر عدد كبير من المقالات والدراسات والندوات عن الموضوع.
وفي محاولة لإعطاء تفسير لحملة الإبادة الجماعية ومساعي التهجير في الحرب على غزة، أحال جون ميرشايمر، الأستاذ في جامعة شيكاغو وأهم منظّري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، الموضوع إلى الهوس الديموغرافي، إذ وصل عدد اليهود والعرب في فلسطين 7,3 مليون لكل منهما، فإسرائيل لا تريد حل الدولتين، كما أن دولة الأبارتهايد غير مستقرة وستنهار عاجلاً أم آجلاً، وهكذا أصبح الحل الإسرائيلي هو التطهير العرقي وارتكاب مجازر إبادة جماعية لدفع الناس إلى الرحيل.[5]
تحوّرات في الأمن القومي الإسرائيلي
في استطلاع للرأي العام الإسرائيلي، أُجري خلال الحرب في مطلع نيسان / أبريل،[6] وطُرح فيه السؤال: ما هو أهم ما يجب تغييره بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر؟ أجاب نحو نصف المستطلعين (49%) بأن الأهم هو تبديل “مفهوم الأمن القومي”، بينما توزعت بقية الإجابات بين زيادة الاعتناء بقوات الاحتياط (19%)، وتعزيز الوحدة الوطنية (19%)، والاعتماد أكثر على الصناعة العسكرية المحلية (5%). وحتى لو كان الذين شملهم الاستطلاع غير مدركين، في معظمهم، للمعنى الدقيق لمفهوم الأمن القومي، إلاّ إنهم بالتأكيد يعرفون جيداً معنى كلمتَي “أمن” و”قومي” والرباط بينهما في الدولة الإسرائيلية. فالكيان “القومي” يعتمد على “الأمن”، ولا حاجة إلى الحفر عميقاً للوصول إلى استنتاج أن مصدر شرعية الدولة الصهيونية في نظرها، هو الأمن والقوة قبل غيرهما. والواضح، في ظل الحرب، أن الدولة والمجتمع الإسرائيليين يتجهان بشكل جارف نحو مزيد من الاتكاء على الأمن كضامن للوجود ولسير الحياة “العادية”، مع تقزيم وتهميش مقصودَين للبعد السياسي.
لقد كان البعد الأمني هو الأساس في كيان الدولة الإسرائيلية، لكنه تضخّم وانتفخ كثيراً بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر، وأصبح المركز والمحور والمبدأ الناظم، واجتاح جميع مناحي النظام والحياة والفكر والوجدان وصبغها بلونه. لقد زادت أهمية الأمن في إسرائيل، لكن في المقابل، تضعضعت وتزعزعت الثقة بالمنظومة الأمنية في ظل فشلها الذريع في 7 تشرين الأول / أكتوبر في توفير الحماية لمستوطني غلاف غزة، وللمستعمرات على الحدود اللبنانية.
هناك إجماع في أوساط النخب الأمنية والسياسية والأكاديمية في إسرائيل على أن نظريات الأمن القومي الإسرائيلي انهارت وثبت عدم جدارتها. ومن المؤكد أن النقاشات الجارية بهذا الشأن ستفضي إلى تغييرات في “مفهوم الأمني القومي” وفي الاستراتيجيات والممارسات العسكرية، وسيكون لها تأثير كبير في الحالة الإسرائيلية وفي الحالة الفلسطينية، أكثر كثيراً من التغييرات في الحقل السياسي. فاعتماد مبدأَي المنع والحرب الاستباقية مثلاً، له تأثير استراتيجي أكبر من شخصية رئيس الحكومة الإسرائيلية.
لقد انقسمت التقييمات السلبية للعقيدة الأمنية والعسكرية إلى ثلاثة: أولاً أن المشكلة تكمن في صلب النظرية والمفهوم اللذين يجب استبدالهما بالكامل وعدم الاكتفاء بالتنقيح والتغيير الجزئي؛ ثانياً أن الفشل في التطبيق وليس في المستوى النظري؛ ثالثاً أن القضية مركّبة من إخفاق في التطبيق، ومن مكونات “تالفة” في النظرية.[7]
مفهوم الأمن القومي
يسود اعتقاد راسخ في الدولة الصهيونية أن شرط وجودها هو قدرتها العسكرية، وهكذا، فإن الأمن القومي بالنسبة إليها لا يعني الحفاظ على نظام الحكم والمصالح والقيم المكتسبة فحسب، بل إنه أيضاً ضامن لوجودها وليس حامياً لشكل هذا الوجود فقط. وعليه، من الصعب الاعتماد على التعريفات المتداولة للأمن القومي وتطبيقها على الحالة الإسرائيلية. ومع ذلك هناك تطابق جزئي في أوجه كثيرة من تفصيلات التعريفات الحديثة الموسعة التي تشمل، علاوة على الأمن، مجالات مثل التعليم والاقتصاد والصحة والأمن الداخلي والعلاقات الخارجية وغيرها، فقد جرى في إسرائيل تبنّي كثير منها ودمجها في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي.[8]
لا يوجد في إسرائيل وثيقة مكتوبة تشمل مفهوم واستراتيجيا وعقيدة الأمن القومي، بل هناك مجموعة من الأدبيات العسكرية والمبادىء الشفوية والقوانين وقرارات الحكومة وقيادة الجيش، تشكل معاً مفهوم الأمن القومي المتعارف والمتفق عليه.[9] وهناك أربعة مرتكزات لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، لها طابع رسمي بعدما جرى إقرارها حكومياً، وهي: الردع والإنذار والدفاع والحسم. وقد جرى تحديد هذه المرتكزات من طرف بن غوريون في مطلع الخمسينيات،[10] سوى مرتكز الدفاع الذي أضافته في سنة 2006 لجنة برئاسة دان مريدور.[11] ومنطق هذه الرباعية هو أن إسرائيل يجب أن تكون قوية بحيث يُرعب الردع أعداءها فلا يشنّون حرباً عليها، وأنهم إذا ما قرروا الهجوم فهناك شبكة إنذار استخباراتية متطورة تنبىء بذلك ليستعد الجيش سلفاً لصدّ الهجوم. وحتى لو حدثت إغارة مباغتة فإنه سيكون لدى الجيش الإسرائيلي دفاع قوي يُفشل الهجوم، وفي كل حرب يتعين على الجيش الإسرائيلي الحسم في المعركة بشكل سريع وخاطف.
ترى الأغلبية الساحقة من دارسي ومنظري ومحللي مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، أنه تعرض لزلزال قوي وتهاوت معظم مسلّماته ومكوناته، بحيث لا ينفع معه الترميم والتنقيح، بل إن هناك حاجة إلى إعادة صوغه برمّته من جديد. وقد نُشرت، حتى الآن، مئات الدراسات التحليلية والتركيبية من طرف معاهد ومؤسسات أكاديمية، تمحورت حول نقد ما كان مع طرح بدائل وتغييرات وإضافات.
الردع: تعرّض مكوّن الردع في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي إلى نقد شديد ولاذع وحتى تهكمي. وذهب البعض إلى أنه مستورد من مفاهيم الحرب الباردة والردع النووي وغير صالح للحروب التقليدية، وخصوصاً في مواجهة منظمات غير دولانية.[12] ووُجهت التهم إلى القيادة السياسية والأمنية في إسرائيل بأنها ارتكبت خطأ فادحاً بالاتكاء على الردع، ليس كأحد الركائز، بل كالركيزة الرئيسية في الاستراتيجيات الأمنية.[13] وطُرح في خضم النقاش السؤال: كيف تردع مَن لا يرتدع؟ فالذين تواجههم إسرائيل اليوم لديهم درجة عالية من الحماسة الثورية والإيمان العميق بعدالة القضية والاندفاع غير المحدود نحو الهدف وعدم الخضوع لتوازن القوى، فضلاً عن المشاعر الدينية والوطنية الجيّاشة. وفي ظل الإحباط، بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر، جرّاء ثبوت عدم نجاعة الردع، تعالت الأصوات بعدم الاتكاء على “رِجلَي دجاجة الردع الضعيفتين”،[14] والاعتماد على سند أكثر متانة. وذهب بعض المنظرين العسكريين إلى أنه لا يمكن معرفة ما إذا كان مَن تواجهه مرتدعاً، فأنت تظن أنه كذلك إلى أن يهاجمك ويتبيّن أن ما كان عندك ليس الردع بل وهم الردع.[15] ومع التبخيس الذي تعرّض له مبدأ الردع، إلاّ إنه بقي حاضراً في الحرب على غزة، إذ ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجازر فظيعة استثمرتها القيادات السياسية كردع وتهديد لكل مَن يدخل في حرب مع إسرائيل، فقد صرّح وزير الأمن يوآف غالانت، أنه في حالة الحرب على لبنان فإن مصير بيروت سيكون كمصير غزة.[16] وبالمجمل يمكن القول إن وزن “الردع” في المفهوم الشامل للأمن القومي الإسرائيلي تراجع من كونه الركيزة الأساسية قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر إلى رِجْل إضافية مساندة، تبقى موجودة لكن لا يتم الاتكاء عليها وحدها.
الإنذار: على غرار حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، فإن الاستخبارات الإسرائيلية فشلت في توفير معلومات مسبقة عن هجوم 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وتعرضت لانتقادات شديدة أدّت إلى استقالة قائد شعبة الاستخبارات العسكرية الجنرال أهرون حليوة، وإلى إعلان رئيس الشاباك رونين بار تحمّل المسؤولية مع إبداء استعداد للاستقالة مع نهاية الحرب. ومن المتوقع أن يستقيل عشرات من قيادات الأجهزة الأمنية بعد انتهاء الحرب.
لقد تباهت إسرائيل على الدوام بالقدرات الخارقة لأجهزة استخباراتها، وبامتلاكها تكنولوجيا تجسس واستشعار لا مثيل لها في العالم، لكن بعد الفشل الذريع تعرّضت هذه الأجهزة لنقد واتهامات بأنها تتحمل مسؤولية ما حدث. وحمل عليها كثيرون لأنها اعتمدت مبدأ “التفوق التكنولوجي” عوضاً عن استراتيجيا “التفوق النوعي” التي وضع أسسها دافيد بن غوريون.
الإنذار المبكّر له أهمية قصوى في بُنية مفهوم الأمن الإسرائيلي، لأن هناك حاجة إلى بعض الوقت لاستدعاء جيش الاحتياط، كما أن القدرة على معرفة مسبقة بخطط ونيات “العدو” تغني عن الحاجة إلى مرابطة قوات دفاعية كبيرة على الحدود. وذهب البعض إلى أن سبب الفشل الأول هو فرط الاعتماد على التجسس الإلكتروني[17] وإهمال “العامل البشري”، أي الجواسيس. ومن المتوقع أن تقوم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بجهود محمومة لتجنيد مزيد من “الجواسيس”، الأمر الذي يستوجب الحيطة والحذر في المرحلة المقبلة.
لقد تحولت شعبة الاستخبارات العسكرية بعد فشلها، إلى “خراب”، وخيّم على جنودها وضباطها الإحباط والتراشق بالتهم. بل يمكن القول إنه بعد تشرين الأول / أكتوبر تراجعت مكانة المؤسسة الاستخباراتية وانكسرت هيبة قياداتها وتزعزعت مفاهيمها المؤسسة ومبادئها الناظمة، كما تعرّض اعتمادها الزائد عن الحد على التكنولوجيا لنقد واسع. ويمكن القول باختصار إن الاتجاه العام هو عدم الاتكاء على ركيزة الإنذار، غير أن هذا لا يعني إضعاف قوة الاستخبارات، وإنما تغيير بُنيتها وتوجهاتها ومهماتها، ونقل مركز الثقل من قراءة “نيات العدو” إلى رصد قدراته للقيام بتدميرها سلفاً.
الدفاع: عندما وضع بن غوريون أسس مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، لم يكن عنصر الدفاع واحداً منها، وإنما جرت إضافته في سنة 2006 تبعاً لتوصيات لجنة خاصة برئاسة دان مريدور. وكان العامل الملحّ في نصب “الدفاع” كرِجْل رابعة (علاوة على الردع والإنذار والحسم) هو ضرورة إيجاد حل لخطر الصواريخ. غير أن دمج “الدفاع” ضمن العقيدة الأمنية الإسرائيلية لم يكن سلساً، لأن “عقلية” الجيش الإسرائيلية، ومنذ أيام بن غوريون، هي هجومية في الأساس.
هناك تضليل كبير في استعمال إسرائيل لمبدأ “الدفاع” السامي، فالصهيونية لم تكن في يوم من الأيام في حالة “دفاع عن النفس”، إذ كيف للمعتدي أن يدافع عن نفسه؟ وفي الحقيقة فإن هذا دفاع “عن الغنيمة” وعن مكتسبات السطو المسلح على فلسطين. ويبقى فارق كبير بين الدفاع عن الذات الإنسانية المسالمة وبين حماية الاحتلال وغنائمه التاريخية والراهنة، والشعب الفلسطيني يعرف ذلك على جلده، فهو ضحية جرائم السلب والنهب والقتل والتدمير والتهجير والاحتلال الفظيعة التي تضعها إسرائيل كلها في خانة واحدة هي “الدفاع عن النفس”.
وفي ظل العمى الاستراتيجي الذي تمثّل في الاتكاء على ردع مفقود والتعويل على الإنذار الاستخباراتي الفاشل، ازدادت أهمية ركيزة “الدفاع”، وذهب عدد من المحللين للقول إن مبدأ الدفاع مهم وضروري ومُجدٍ، وإن المشكلة تكمن في التطبيق وعدم مرابطة قوات كافية على الحدود. وخلافاً لركيزتَي الردع والإنذار اللتين أعطتهما القيادة الإسرائيلية أهمية فائقة جاءت بنتائج عكسية، فإنه جرى إهمال ركيزة الدفاع استهتاراً بنيات وقدرات من تواجههم إسرائيل. وعليه، جاء الاستنتاج بضرورة نشر قوات نظامية كبيرة عالية التدريب، وبلزوم تطوير منظومة دفاعية مدمجة تشمل القوات البرية والدفاع الجوي وسلاح الطيران والقوات البحرية. وتتجه إسرائيل نحو رد الاعتبار إلى الاستيطان العسكري، وإنشاء وحدات عسكرية قتالية في كل مستعمرة حدودية،[18] ويأتي ذلك بعد تقييم دور “فرق التأهب” في مستعمرات غلاف غزة، والادعاء أنها كانت ستكون أكثر قدرة على صدّ هجوم “حماس” لو كانت أكثر تدريباً وتسلحاً.
وقد جرى حديث غير رسمي بشأن ما العمل بالنسبة إلى مستعمرات الحدود اللبنانية إذا لم يكن هناك اتفاق ولا حرب؟ وطُرحت في هذا السياق فكرة بناء منظومة دفاعية متينة تشمل تشكيل وحدات عسكرية من المستعمرات مسلحة كأنها في الجيش، ونشر قوات عسكرية ثلاثة أضعاف ما كان عليه الوضع قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر، وتحصين الجدار الحدودي وتقويته وتحويله إلى سدّ منيع أمام هجمات محتملة.[19] ويأتي هذا الطرح استناداً إلى استنتاج أنه يجب أن يكون لإسرائيل القدرة على الدفاع حتى لو لم يصلها إنذار مبكر، وأنه لو كان هناك قوات عسكرية كافية على الحدود لما استطاعت قوات “حماس” اقتحام المستعمرات.
وتتجه إسرائيل إلى إدخال عوامل إضافية لتقوية ركيزة “الدفاع”، ومنها إنشاء أحزمة حماية حدودية في غزة ولبنان وسورية للتصدي لـ “منظمات معادية”، وكذلك السعي للاحتماء بحزام أمان عربي ضد إيران. كما أن نتنياهو دعا إلى تبنّي مفهوم “الدفاع الفاعل”، وعدم الاكتفاء بالمرابطة على الحدود، في عودة إلى توجهات بن غوريون الأمنية.
ولعل من أهم المتغيرات في الأشهر الأخيرة، في سياق الدفاع، هو انهيار مبدأ “إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها”، الذي وضعه دافيد بن غوريون في سنة 1951، وفحواه أن إسرائيل لا تريد أن تشارك قوات أجنبية في الدفاع عنها، بل إن ما تطلبه “فقط” هو دعم بالأسلحة وتبادل للمعلومات. غير أن هذا المبدأ جرى خرقه في الأسبوع الأول للحرب من خلال تقسيم العمل[20] بين الجيش الإسرائيلي وقوات المنطقة الوسطى التابعة للجيش الأميركي. فوفقاً لهذا التقسيم تتولى إسرائيل التصدي لكل ما يأتي من دول الطوق، بينما تتكفل الولايات المتحدة بمواجهة أي هجوم صاروخي أو غيره ينطلق من دول الدائرة الثانية (إيران؛ اليمن؛ العراق)، وهذا ما حدث فعلاً، إذ دخلت البحرية الأميركية في صدام مع القوات اليمنية التي أعلنت أن هدفها هو إسرائيل وليس غيرها. والأهم من ذلك شارك الجيش الأميركي بطائراته وبدفاعاته الجوية في التصدي للهجوم الصاروخي الإيراني في نيسان / أبريل الماضي، وانضمت إليه طائرات بريطانية وفرنسية وعربية. ولولا هذا “الدفاع” الأجنبي عن إسرائيل لجرى تدمير قواعد عسكرية، ولسقط عدد كبير من القتلى والجرحى باعتراف الإسرائيليين أنفسهم. وبالنسبة إلى نتنياهو فإن هذه “بروفة”، لأن هدفه الكبير هو مشاركة أميركية أوروبية عربية في توجيه تهديد مباشر لإيران، بل حتى شنّ هجوم عليها لإفشال مشروعها النووي.
الحسم: معنى كلمة حسم “هكراعا” بالعبرية هو تركيع، وهناك من الاستراتيجيين الإسرائيليين مَن يرى أن الحسم في المعركة والحرب هو تركيع العدو. ويدور نقاش طويل في إسرائيل عن ثلاثة مصطلحات ومعناها ودلالاتها العملية، وهي: الحسم؛ النصر؛ فرض الاستسلام. وجاء في قاموس الجيش الإسرائيلي[21] تعريف الحسم بأنه: “تحطيم قدرة العدو على المقاومة وعلى العمل ضدنا بنجاعة.” أمّا النصر فهو وفق هذا القاموس: “التغلب على العدو.. وتحقيق الأهداف العسكرية كاملة أو الجزء الأكبر منها، بثمن يمكن تحمّله. فتحقيق النصر هو الغاية العامة الدائمة لكل جندي في كل حال.” أمّا الاستسلام الذي يسعى الجيش الإسرائيلي لفرضه، فيُعرّف بأنه: “الخضوع للعدو الذي يستعمل القوة أو يهدد باستعمالها.. وهذا ممكن عند فقدان قدرة أو إرادة القتال أو الاقتناع بأن الخسارة من مواصلة القتال أفدح من قبول شروط العدو.”
وقد أثارت الحرب على غزة أسئلة كثيرة عن معاني النصر والحسم وإخضاع “العدو”، وانتشرت عدة تعابير، فدعا نتنياهو إلى “النصر المطلق”، وغانتس إلى “النصر الحقيقي”، وآخرون إلى “النصر الكافي” و”الحسم الواضح”، وغير ذلك من التعابير. لكن الجديد فعلاً هو نقل مفهوم الاغتيال من الفرد إلى الجماعة، ذلك بأن الترجمة الحرفية لهدف الحرب الأول والمعلن هو “حيسول بالعبرية” وتعني “اغتيال حماس”، أي القضاء عليها. وقد فهمت قيادة الجيش الإسرائيلي أن صوغ الهدف بهذا الشكل مضافاً إليه النصر المطلق، هما فخّ لأنهما غايتان غير قابلتين للتحقيق، فجاء الجنرال هيرتسي هليفي بصيغة فحواها “تفكيك القدرات القتالية لحماس.” وفي المقابل يصرّ نتنياهو على صِيَغه لإطالة أمد الحرب بادعاء أن أهدافها لم تتحقق.
في التراث العسكري الإسرائيلي يجب أن تكون الحرب خاطفة وسريعة وقصيرة، والنصر يجب أن يكون حاسماً وواضحاً، وهذا لم يحدث في الحرب على غزة التي امتدت أشهراً طويلة، وربما تتواصل لأعوام. وإطالة الحرب لم تكن وليدة تداعيات الأحداث فحسب، بل سبقتها تنظيرات عسكرية أيضاً، وخصوصاً من الجنرال احتياط يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي والمستشار غير الرسمي لبنيامين نتنياهو، والذي قال إن الحرب ضد التنظيمات “النحيفة” [الصغيرة وغير النظامية] تختلف عن حرب ضد الجيوش النظامية، ودعا إلى عدم التردد في حرب طويلة لأن إسرائيل هي القوية والثقيلة في مقابل منظمات صغيرة نسبياً، ويمكنها تحقيق إنجازات في الحرب تراكم عليها إنجازات إضافية، بحيث تطول الحرب وتكسب فيها إسرائيل أكثر فأكثر. كما أوصى عميدرور بالامتناع من السعي للتوصل إلى تسويات كنهاية للحرب لأن ما تكسبه إسرائيل هو ما تحققه عسكرياً. ويبدو أن هذا الكلام الذي قيل قبل الحرب بأعوام، أثّر في نتنياهو وفي قراراته مثلما شهدناها.[22]
المنع: استراتيجيا المنع ليست ضمن الركائز الرسمية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، لكن يجري العمل وفقها في حالات كثيرة. ففي سنة 1981، أصدرت حكومة مناحم بيغن قراراً بقصف المفاعل النووي العراقي، وفي سنة 2006 قصفت الطائرات الإسرائيلية، بقرار من حكومة إيهود أولمرت، مرفقاً نووياً في سورية. وجرى تبرير كلتا الغارتين بأن هدفهما منع تطوير سلاح نووي في المنطقة. ومنذ أكثر من عشرة أعوام تقوم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بعمليات عسكرية شبه يومية ضد إيران وضد الوجود الإيراني في سورية بادعاء منع إيران من امتلاك أسلحة فتاكة، وعرقلة تموضعها على الأراضي السورية قريباً من إسرائيل. كما بادرت إسرائيل إلى شنّ اعتداءات متكررة على غزة والضفة ولبنان بهدف “منع” تطور قوة تهددها في إطار سياسة “جزّ العشب”.
بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر وُجهت التهم إلى القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل بأنها امتنعت من شنّ حرب استباقية ظناً منها أن “حماس” مردوعة. وكتب كثيرون أنه لو كانت استراتيجيا المنع هي بوصلة العمل العسكري الإسرائيلي لما حدث الذي حدث. وتتجه الآراء لدى النخب الأمنية والسياسية بإضافة ركيزة “المنع” رسمياً إلى مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، ومنحها الأولوية وعدم تقييدها بعدم تجاوز عتبة الحرب، بل القيام بالضربات وحتى بالحروب الاستباقية عند الضرورة، مهما يكن الثمن. ويتضح من مجمل النقاشات الجارية في إسرائيل طغيان فكرة الاتكاء على المنع، وتخفيف الوثوق بالردع، وهذا تغيير مهم في الترجمة العملية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي نحو اتجاه أكثر بطشاً وعدوانية.
معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة: قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر كان موقف النخب الأمنية الإسرائيلية معارضاً لمقترح عقد “معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة” وذلك لسببين: الأول الخشية من تؤدي المعاهدة إلى تكبيل الآلة العسكرية الإسرائيلية وربط عملياتها بالتنسيق المسبق الملزم مع الولايات المتحدة، والثاني، عدم الرغبة في مشاركة فرق من الجيش الإسرائيلي في الحروب الأميركية.
لقد تبيّن لهذه النخب أن إسرائيل لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لوحدها، وهي بحاجة إلى السند، بل حتى إلى المشاركة الأميركية. صحيح أن الولايات المتحدة تصرفت كأن هناك معاهدة دفاع مشترك مع إسرائيل، فهي ما كانت لتقدّم أكثر ممّا قدمته لو كان هناك معاهدة، إلاّ إنه لهذا السبب بالذات، تعالت الأصوات في إسرائيل منادية بتحويل هذه الدعم الأميركي إلى التزام رسمي على شكل معاهدة تحاكي الالتزام الأميركي في حلف الناتو. والدافع إلى هذا التغيير في المواقف الإسرائيلية هو الإدراك المباشر أن المخاطر التي تواجه الدولة الصهيونية هي في ازدياد، وهناك خشية من تغييرات في الالتزام الأميركي “الطوعي” بسبب التحولات في الموقف من إسرائيل وحروبها في المجتمع الأميركي.[23]
وحاول بنيامين نتنياهو التوصل إلى معاهدة دفاع مشترك مع ترامب عندما كان هذا الأخير رئيساً للولايات المتحدة، غير أن قيادة الجيش الإسرائيلي عارضت ذلك، ومن المحتمل جداً أن يعود ويطرح الموضوع مجدداً بعد الانتخابات الأميركية. ويدّعي نتنياهو أن في إمكانه التوصل إلى معاهدة مع الولايات المتحدة لا تشمل تقييدات على العمليات العسكرية الإسرائيلية، ولا تلزم بالمشاركة في الحروب الأميركية. وربما يبدو هذا الأمر مجافياً لمنطق العلاقات الدولية، إلاّ إن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة لها منطقها الخاص والمستقل.
جيش أكبر: الاستنتاج الأول من الحرب هو أن الدولة الصهيونية بحاجة إلى جيش أكبر، وقد وُجّهت انتقادات شديدة لفكرة “جيش صغير وذكي”، التي نادى بها رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، الجنرال إيهود براك. فالجيش الإسرائيلي أعلن رسمياً خلال هذه الحرب، أنه بحاجة على الأقل، إلى 6000 مجنّد إضافي كل عام، وجرى تبعاً لذلك تمديد إمكان استدعاء جنود الاحتياط بعام واحد، كما تم وقف التقليص المتواصل في مدة خدمة الجيش النظامي، وارتفعت الأصوات المنادية بتجنيد اليهود التوراتيين “الحريديم”. وأثار هذا الموضوع نقاشاً حاداً في إسرائيل، إذ رفضت قيادات الحريديم تجنيد شبابهم للخدمة العسكرية، ويحاول نتنياهو سنّ قانون تجنيد جديد يقبل به حلفاؤه في الحكومة، لكنه يلقى معارضة داخل حزب الليكود أيضاً. ومن الممكن جداً أن تؤدي هذه الأزمة إلى سقوط حكومة نتنياهو في مرحلة ما.
المحتجزون: تحاول الدعاية الإسرائيلية جاهدة التغطية على حقيقة ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر. ومع ذلك توافرت معلومات فحواها أن الجيش الإسرائيلي أصدر أوامر إلى جميع وحداته القتالية، باتّباع “مبدأ هنيبال”، ومنع عودة مقاتلي “حماس” إلى غزة، حتى لو كان معهم محتجزون. وجاء الطلب مرفقاً بالمنع بأي ثمن، وهذا تعبير عسكري إسرائيلي يعني استعمال القوة وإطلاق النار لتحقيق الهدف حتى لو أدى ذلك إلى قتل المحتجزين.
وحالياً يسعى رئيس الحكومة الإسرائيلية لمنع التوصل إلى صفقة تعيد المحتجزين وتشمل وقفاً لإطلاق النار، ويخترع كل يوم حججاً جديدة. وموقف نتنياهو هذا يثير غضباً شديداً لدى أوساط واسعة في المجتمع الإسرائيلي ترى أن الدولة “تخون الأمانة”، فهي أهملت في الدفاع، وتمتنع من تصحيح خطئها. إن التعامل مع قضية المحتجزين يمثل للمجتمع الإسرائيلي أمراً صعباً يجري فيه التحلل من الالتزام بإعادة الأسرى، والذي كان على مدى أعوام طويلة، مبدأ مهماً في التفكير الأمني الإسرائيلي.
تحولات سياسية
بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر بأيام قليلة كتب الأديب الإسرائيلي دافيد غورسمان أن إسرائيل بعد الحرب ستكون أكثر يمينية وعسكرة وعنصرية. فقد أدت أحداث ذلك اليوم وما تلاها من حرب إبادة جماعية في غزة إلى إزاحة شاملة وكاملة للخريطة السياسية الإسرائيلية نحو مزيد من التطرف: فما كان يساراً صهيونياً أصبح وسطاً، وما اعتُبر وسطاً صار يميناً، وما احتل خانة اليمين أضحى يميناً متطرفاً، وما كان يميناً متطرفاً أمسى يميناً موغلاً في هوس التطرف. وفي موازاة ذلك يبدو أن نسبة عالية من الجمهور الإسرائيلي فقدت ثقتها بالقيادة السياسية والأمنية، وباتت تبحث عن عناوين جديدة، وهو ما انعكس في التبدلات السريعة في نتائج استطلاعات الرأي، لعل أبرزها ارتفاع شعبية حزب “معسكر الدولة” برئاسة بيني غانتس من 12 عضواً في الكنيست الحالية إلى 40 عضواً في الاستطلاعات، لتنخفض بعدها إلى نحو النصف. ومن المؤكد أنه سيكون هناك تغييرات واسعة في الاصطفاف الحزبي من الصعب التكهن بتفصيلاته الآن، لكن يمكن رصد بعض الاتجاهات العامة.
التغيير العملي الأول كان انسحاب غدعون ساعر اليميني من حزب “معسكر الدولة”، بحثاً عن بيت سياسي جديد له ولحزبه “اليمين الرسمي”. ويعكس انسحاب ساعر الانزياح اليميني، فهو غير راضٍ عن “يمينية غانتس وأيزنكوت”، ويريد إطاراً سياسياً أكثر تطرفاً.
التغيير الفعلي الثاني، في ظل الحرب، كان انتخاب الجنرال يئير غولان رئيساً لحزب العمل أولاً، ثم لتحالف العمل وحزب ميرتس. وقد انتُخب غولان بأغلبية ساحقة بعد أن اكتسب شعبية لأنه لبس البدلة العسكرية في 7 تشرين الأول / أكتوبر ووصل إلى الجبهة وصار يجري مقابلات صحافية من هناك وهو يرتدي زي ضابط في الجيش. فقبل سنتين ترشّح غولان لرئاسة ميرتس، لكنه لم يُنتخب لأنه جنرال، وفي ظل الحرب انتُخب لرئاسة اليسار الصهيوني لأنه جنرال، وهو اليوم رئيس حزب “الديمقراطيين” الذي يوحد في صفوفه حزبَي اليسار الصهيوني: العمل وميرتس.
إن الصراعات السياسية في إسرائيل تؤثر في مجرى الحرب وتداعياتها. فأحد أسباب (ليس السبب الوحيد) رفض نتنياهو وقف إطلاق النار هو خشيته من أن يؤدي وقف الحرب إلى تشكيل لجنة تحقيق، وإلى إجراء انتخابات مبكرة، وإلى زيادة احتمال خسارته منصب رئاسة الحكومة، وخصوصاً في الفترة التي تبدأ فيها شهادته أمام المحكمة التي تبحث في تهم الفساد الموجهة ضده. ولهذا يسعى نتنياهو جاهداً للحصول على صورة نصر تمكّنه من استعادة المكانة التي فقدها في المجتمع الإسرائيلي. وعلى الرغم من فشله الكبير، فإنه لا يزال ممسكاً بزمام الأمور في حكومته، وهو ينتظر انتصار ترامب في الانتخابات الأميركية كي يحصل منه على دعم سياسي يساعده في المحافظة على كرسيه. لكن هناك تحفظاً وحيداً بشأن سلوك نتنياهو وهو: ماذا سيفعل بالنسبة إلى شهادته في المحكمة؟ ويذهب عدد من المحللين السياسيين الإسرائيليين إلى أنه لن يمثل أمام المحكمة، وإنما سيتوصل إلى صفقة مع النيابة تشمل تخلّيه عن كرسي رئاسة الحكومة في مقابل عدم محاكمته، ومن المؤكد أنه يدرس هذا الإمكان، لكن يبدو أنه لم يتخذ قراره بعد.
حالة النظام الإسرائيلي هي الآن هدوء ما قبل العاصفة، ومن المؤكد أن قيادات الجيش والشاباك وربما الموساد ستتغير، كما أن الخريطة الحزبية ستمر باهتزازات تبعاً للرجّات الارتدادية لحرب تشرين الأول / أكتوبر 2023. فعلى سبيل المثال، يجري الحديث عن حزب يميني جديد يشمل رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت، ورئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان، ورئيس الموساد السابق يوسي كوهين، وعضو الكنيست غدعون ساعر رئيس حزب “اليمين الرسمي”، وعن أن هذا التكتل الافتراضي سيحصل على المكان الأول في استطلاعات الانتخابات، وسيتفوق على الليكود وعلى حزب “معسكر الدولة” برئاسة غانتس.
إن الدلائل كلها تشير إلى أن الخريطة السياسية الإسرائيلية ستتغير كثيراً في الفترة المقبلة. ومع ذلك يمكن الجزم بأن اليمين سيفوز في الانتخابات مهما يحدث، فانتصار نتنياهو أو بينت أو غانتس لن يغير الصورة جذرياً، والحكومة الإسرائيلية المقبلة ستكون يمينية.
ثمة صراع مرير يدور في العلن وفي الظل، بين نتنياهو وقيادة الجيش والمؤسسة الأمنية، وتطفو على السطح تجليات عديدة لهذا الصراع، لكن سببها الأساسي هو الخلاف بشأن تحمّل مسؤولية الفشل الأمني. فالقيادة الأمنية الإسرائيلية تعترف بمسؤوليتها عن الأداء العسكري، وتنوي الاستقالة، بينما نتنياهو في المقابل يتمسك بكرسيّه ويدّعي أن قادة الأجهزة الأمنية والجيش يتحملون المسؤولية، وأن الفشل هو سقوط أمني وليس إخفاقاً سياسياً. ويبرز الصراع بشأن المسؤولية في خلافات نتنياهو مع وزير الأمن، يوآف غالانت، الذي دعا إلى إقامة لجنة تحقيق رسمية تحقق مع نتنياهو ومع الوزراء والقيادات الأمنية. وبما أن غالانت يمثل المؤسسة الأمنية، وهو على تنسيق تام مع قيادة الجيش، فإن نتنياهو لا يثق بنيّاته، فحين سئل في مؤتمر صحافي هل سيقوم بإقالته أجاب: “أنا لا أقيل وزراء إذا كان هناك ثقة متبادلة”، الأمر الذي يعني أنه ربما يُقْدم على إقالته.
على عتبة ركود اقتصادي
من الصعب التكهن بالتأثير العيني لحرب العدوان الإسرائيلي على غزة في الاقتصاد الإسرائيلي، لكن يمكن رصد المسارات العامة استناداً إلى التجربة التاريخية وإلى المعطيات الرسمية التي نُشرت حتى الآن. فمن ناحية تاريخية، يرى الأستاذ يوسي زعيرا، مؤلف كتاب “اقتصاد إسرائيل”[24] الذي سيصدر قريباً باللغة العربية أيضاً، أن المواجهة مع الفلسطينيين تسبب ركوداً في الاقتصاد الإسرائيلي، وهو ما حدث بعد الانتفاضتَين الأولى والثانية، وفي جولات صدام أُخرى.
علاوة على ذلك، فإن المعطيات الرسمية المتوفرة إلى حين كتابة هذه المقالة، وتشمل الربع الأخير من سنة 2023، والربع الأول من سنة 2024، تتضمن مؤشرات نصف سنوية قوية تدل على أن الاقتصاد الإسرائيلي يغرق في ركود اقتصادي:
الناتج الإجمالي المحلي تقلّص بنحو 10 مليارات دولار.
الاستثمار الإجمالي انخفض بما يقارب 13 مليار دولار.
الصرف الحكومي المباشر على الحرب زاد، إلى الآن، بما يوازي 9 مليارات دولار.
وفي محاضرة له في يوم دراسي بعنوان “تأثير 7 تشرين الأول / أكتوبر في الاقتصاد الإسرائيلي”، قدّر البروفسور أمير يارون أن تكلفه الحرب الاجمالية ستصل إلى 70 مليار دولار، أي أن الميزانية العسكرية الجارية سترتفع بنحو 5 مليارات دولار على الأقل. وبما أن القيادة الاقتصادية الإسرائيلية الحالية هي نيوليبرالية التوجه، فهي لن تفرض ضرائب جديدة، بل ستسعى لتجنيد مزيد من المليارات عبر تقليص الخدمات الاجتماعية في مجالات التعليم والصحة ومخصصات المعاقين وغيرها، الأمر الذي ربما يثير موجة احتجاج قوية يختلط فيها الغضب على فشل الحرب مع محاصرة دولة الرفاه الاجتماعي.
هناك أيضاً بعض الأبعاد الاقتصادية للحرب، والتي ستدفع نحو تغييرات في السياسات الاقتصادية:
من المتوقع أن تنتهي السنة المالية بعجز كبير يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، بعد أن انتهت سنة 2022 بفائض في الميزانية.
خلال الحرب تواجه إسرائيل مشكلة هجرة الأدمغة، وحتى الذين لم يهاجروا اهتمت أغلبيتهم بالحصول على جواز سفر برتغالي أو روماني أو ألماني وهي أمر سهل بالنسبة إلى الإسرائيليين، ومَن يمتلك جوازاً يصبح جاهزاً للهجرة الفورية متى يرغب هو وعائلته. ولا توجد حتى الآن إحصاءات رسمية، لكن الظاهرة واسعة، ويحتل العاملون والمستثمرون في مجال “الهاي تلك” المكان الأول في الهجرة، فهم ينتقلون ومعهم استثماراتهم إلى بلاد أُخرى.
الحصار البحري اليمني يؤثر في الاقتصاد الإسرائيلي، إذ لا تمر سوى 40% من الواردات إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، والنتيجة المباشرة ارتفاع في تكلفة الشحن، وبالتالي في الأسعار.
الصرف الحكومي في ازدياد والمداخيل في تراجع، الأمر الذي يؤدي إلى عجز في ميزان المدفوعات.
تكلفة إعادة المستوطنين الذين تركوا بيوتهم بسبب الحرب ستكون باهظة بجميع المقاييس، ولا سيما أن آلاف البيوت والمباني في غلاف غزة وعلى الحدود اللبنانية دُمّرت، فضلاً عن أن بقاءهم في الفنادق مكلف جداً.
تراجعت السياحة بشكل كبير جداً، وهذه خسارة اقتصادية كبيرة.
من الواضح أن للحرب تأثيراً كبيراً في الاقتصاد، لكن هل يوجد تأثير في الاتجاه المعاكس؟ في الحقيقة هناك تأثير اقتصادي في اتخاذ القرار الأمني والسياسي لكنه ليس بالتأثير الحاسم. ففي حسابات الحرب على الجبهة اللبنانية، يؤخذ البعد الاقتصادي بعين الاعتبار، كما أن الحذر من تجنيد قوات الاحتياط لمدة طويلة، يعود إلى أسباب اقتصادية، لكن إذا دخل الاقتصاد الإسرائيلي في حالة أزمة شديدة وركود وعجز وتضخم، فلا بد من أن يكون لهذا الأمر تأثير أكبر في اتخاذ القرار الأمني والسياسي في الدولة الصهيونية.