أمد/ تقوم الأزمة الإسرائيلية على معادلتين بنيويتين ثابتتين لا يمكن الفصل بينهما: ضيق الجغرافيا وهشاشة الديمغرافيا.
فمنذ تأسيس الكيان عام 1948، تواجه إسرائيل معضلة الوجود نفسه، باعتبارها مشروعًا كلونياليا استيطانيًا نشأ في بيئة معادية، وعلى أرض مأهولة بشعب أصيل لا يمكن إزاحته أو إذابته، مهما استخدمت القوة أو توسعت في سياسات الاستيطان. هذه الأزمة ليست طارئة، بل هي جوهر الكيان، وأي محاولة لمعالجتها—سواء عبر التوسع الجغرافي أو “استيراد البشر” من كل أصقاع الأرض—لا تقود إلى حلول حقيقية، بل تُعمّق هشاشته وتسرّع تصدّعه الداخلي، وهنا نناقش عددا من الإشكالات التي تعكس مأزقه الوجودي في المنطقة.
أولاً: الجغرافيا الضيقة…
صراع كيان بلا عمق
منذ لحظة نشأتها، أدركت إسرائيل أنها محاصرة بين ثلاث حقائق لا يمكن تجاوزها:
1. ضيق المساحة وعدم وجود عمق دفاعي حقيقي.
2. مجتمع فلسطيني أصيل يمتد من الجليل إلى النقب.
3. محيط عربي لا تستطيع احتواءه إلا بالقوة.
ولأن الجغرافيا لا تتسع لطموحاتها، حاولت إسرائيل خلق “عمق بديل” عبر السيطرة على الضفة الغربية والقدس والتهام مساحات واسعة بالاستيطان.
لكنها بذلك لم تحل الأزمة الأمنية، بل صنعت احتلالًا دائمًا يكلفها مليارات، ويورطها في حروب مفتوحة لا تنتهي.
إن محاولة خلق عمق جغرافي بالقوة تُبقي الكيان في حالة توتر دائم، وتربطه كليًا بالغطاء الأمريكي، وتحول أرض فلسطين إلى ساحة صراع مستمر بدل أن تكون حدودًا مستقرة.
ثانيًا: الديمغرافيا…
أزمة شعب لا يملك شعبًا
تعتمد إسرائيل على قاعدة واحدة تعتبرها شرط الحياة: الحفاظ على أغلبية يهودية ساحقة.
لكن هذه القاعدة ما زالت تتآكل أمام الديناميات الطبيعية للسكان الفلسطينيين الأصليين.
ولذلك اعتمدت إسرائيل سياسات مركّبة، أبرزها:
1. استيراد مهاجرين يهود من العالم: من روسيا وأوروبا وإثيوبيا، والآن من الهند وأمريكا اللاتينية.
2. تهجير الفلسطينيين أو دفعهم للهجرة القسرية عبر الحصار والقتل وسلب الأراضي.
3. سنّ قوانين عنصرية مثل “قانون القومية” الذي يحصر حق تقرير المصير باليهود فقط.
لكن هذه السياسات لا تلغي الحقيقة الديمغرافية:
الفلسطينيون هم أصحاب الأرض، ونسب نموهم الطبيعي أعلى، بينما المهاجرون الجدد لا يحملون انتماءً تاريخيًا، وكثير منهم يغادر مع أول هزة أمنية أو اقتصادية.
والمجتمع الإسرائيلي نفسه تتسع داخله التصدعات:
” شرقيون وغربيون، متدينون وعلمانيون، روس وأثيوبيون وهنود، ما يجعل البنية الاجتماعية هشة، ومجتمعات المهاجرين كتلاً منفصلة لا شعبًا واحدًا”.
ثالثًا: استيراد البشر…
حلٌّ كاذب لأزمة حقيقية
من منظور استراتيجي، لا يؤدي استيراد البشر إلى حلّ مأزق إسرائيل، بل إلى تكريسه لأسباب جوهرية:
تعميق تفكك المجتمع الإسرائيلي وتنامي التوترات بين مكوّناته.
زيادة العزلة الإقليمية، لأن الكيان يتوسع بشريًا على حساب السكان الأصليين.
تعزيز المقاومة الفلسطينية بوصفها ردًا طبيعيًا على محاولات الإقصاء والطمس.
رفع الكلفة الأمنية والعسكرية نتيجة اتساع رقعة السيطرة على شعب آخر داخل أرض واحدة.
انعدام الشرعية التاريخية، إذ لا تصنع الهجرة هوية ولا تضفي جذورًا على مشروع استيطاني.
كل مهاجر جديد يشكل رقمًا فوق الورق، لكنه لا يشكل حلًا في المعادلة الوجودية. إن الأزمة ليست نقصًا في العدد بل فائضًا في الاغتراب عن المكان.
رابعًا: المآل…
كيانٌ يتآكل من الداخل
إن التفاعل بين ضيق الجغرافيا وهشاشة الديمغرافيا يدفع إسرائيل إلى طريق واضح المعالم:
تطرف سياسي متصاعد يقوده اليمين الديني.
انقسام داخلي بين مكوّنات المجتمع ذاته.
عزلة إقليمية ودولية متنامية رغم محاولات التطبيع.
تراجع القدرة على فرض الواقع بالقوة مع تطور المقاومة، واتساع الجغرافيا البشرية الفلسطينية.
وبينما تحاول إسرائيل الهروب إلى الأمام بالتوسع أو استيراد المهاجرين، تتعمق أزمتها بقدر ما تتسع خريطة سيطرتها.
فالاحتلال ليس حلًا استراتيجيًا، والاستيطان ليس مشروعًا قابلًا للاستدامة، والهجرة المدفوعة ليست بديلًا عن التجذّر في الأرض.
خلاصة نقول:
أزمة الكيان، أزمة وجود لا أزمة أرقام ….
إسرائيل لا تواجه مجرد تحديات سكانية أو جغرافية؛ بل تواجه معضلة وجودية لا يمكن للهجرة ولا للاحتلال أن يحلّاها.
فالجغرافيا الضيقة لا تتسع لطموحاتها، والديمغرافيا لا تساير مخططاتها، والمحيط لا يتقبل كيانًا استيطانيًا يقوم على الإقصاء والطرد.
إن استيراد المهاجرين والتوسع الاستيطاني ليسا سوى محاولات لتأجيل الانهيار، لا لتجنّبه.
فشعبٌ أصيل متجذّر، وجغرافيا تقاوم التغيير، ومحيطٌ يرفض الإذعان، كلها حقائق تضع الكيان في مسار أزمة ممتدة تزداد كلما حاول الهروب منها.
هكذا تبدو إسرائيل اليوم: كيانًا يبحث عن مساحة لا تتسع له، وعن شعب لا يجده، وعن مستقبل لا يستطيع صنعه بالقوة وحدها.
