إحصاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.. أرقام في خدمة المشاريع

أمد/ لعبة الأرقام الفلسطينية في لبنان: بين السياسة والواقع
لم تكن لعبة الأرقام الفلسطينية في لبنان يوماً مسألة إحصائية بحتة، بل هي جزء من بورصة سياسية تتحرك صعوداً وهبوطاً وفق المتغيرات والتوجهات المرتبطة بالتحولات الديموغرافية أو بحشد التمويل والمساعدات من الدول المانحة. وعند التطرق إلى أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، تظهر تباينات واضحة بين الإحصاءات الرسمية والتقديرات الفعلية، ما يثير تساؤلات عديدة حول الأهداف الكامنة وراء كل رقم يُعلن.
وفقاً للموقع الرسمي لوكالة “الأونروا”، فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في لبنان يبلغ 493,201 لاجئ، وهو رقم يعتمد على التسجيلات التاريخية منذ لجوئهم إلى لبنان. غير أن الواقع يشير إلى تناقص ملحوظ في العدد الفعلي خلال العقود الماضية، نتيجة الهجرة لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية. بعض المخيمات، مثل شاتيلا وبرج البراجنة، فقدت تدريجياً هويتها الأصلية مع دخول وافدين جدد من جنسيات مختلفة.
في عام 2008، أجرت الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع “الأونروا” دراسة كشفت أن العدد الفعلي للاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان يتراوح بين 260 و280 ألف لاجئ. وفي عام 2017، أظهرت دراسة أعدتها لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، بالتعاون مع إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن العدد انخفض إلى 174 ألف لاجئ، ما أثار جدلاً واسعاً حول توقيت هذا الإحصاء ودوافعه، كونه الأول من نوعه منذ عام 1948.
التحقق الرقمي.. مشروع بأهداف مزدوجة
في سياق لعبة الأرقام، أطلقت مديرة “الأونروا” في لبنان، دوروثي كلاوس، مشروع التحقق الرقمي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وذلك بالرغم من الاعتراضات الفلسطينية حول أبعاده الأمنية. وأعلنت عبر منصة “X” عن تسجيل 222 ألف لاجئ فلسطيني، بينهم 27 ألفاً من فلسطينيي سوريا. وقد أتاح التطبيق الذكي المستخدم في المشروع إمكانية تسجيل اللاجئين خارج لبنان، فيما امتنع آلاف آخرون عن التسجيل خشية تداعيات أمنية محتملة.
لم يمضِ وقت طويل حتى كشفت “الأونروا” عن مشروع توزيع مساعدات غذائية، حصراً للعائلات المسجلة في التحقق الرقمي، مما طرح تساؤلات حول الهدف الفعلي للمبادرة، وهل كانت مجرد وسيلة لإجراء مسح جديد للاجئين ضمن غطاء إنساني؟
تفاصيل المشروع ومآخذ عليه
المشروع، الذي بلغت تكلفته 6 ملايين دولار بتمويل ألماني، استهدف توزيع حصص غذائية لمرة واحدة فقط على الأشخاص المسجلين في التحقق الرقمي. ولكن عند احتساب قيمة الحصص الموزعة على 222 ألف مستفيد مفترض، يتبين أن المبلغ الفعلي لا يتجاوز 3.5 مليون دولار، ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول كيفية إنفاق المبلغ المتبقي.
إلى جانب ذلك، برزت عدة ملاحظات حول المشروع:
1. العودة إلى المساعدات العينية: كانت “الأونروا” قد استبدلت المساعدات الغذائية بمساعدات نقدية منذ سنوات، لتوفير حرية التصرف بالأموال وتجنب إذلال اللاجئين في طوابير الانتظار. فلماذا العودة إلى المساعدات العينية الآن؟
2. إقرار المشروع دون استشارة المجتمع المحلي: لم يتم التنسيق مع اللجان الشعبية أو المرجعيات الرسمية والجمعيات الأهلية المتخصصة، ما أثار اعتراضات واسعة.
3. جودة المساعدات ومصادرها: وردت شكاوى حول انتهاء صلاحية بعض المواد الغذائية، إلى جانب اختيار “الأونروا” لمورد لبناني بدلاً من الموردين الفلسطينيين ذوي ة في المجال، وهم كثر.
4. تكاليف التوزيع المبالغ بها: لجأت “الأونروا” إلى مراكز توزيع خارج المخيمات بذريعة الأمن والتخزين، مما رفع الكلفة اللوجستية للنقل والتوضيب. كما دفعت مبالغ كبيرة لصيانة منشآت رياضية مثل مدينة فؤاد شهاب الرياضية (50 ألف دولار) والملعب البلدي في صيدا، رغم إمكانية التوزيع داخل المخيمات بالتعاون مع اللجان المحلية، ما كان سيوفر الجهد والمال ويجنب اللاجئين عناء التنقل وتحمل تكاليف إضافية.
هل يتكرر سيناريو 1949؟
ما يبدو ظاهرياً كمشروع مساعدات، يخفي في جوهره خطوة أخرى لإجراء مسح جديد لعدد اللاجئين، ما يثير مخاوف من إعادة سيناريو عام 1949، عندما أحصى الصليب الأحمر أعداد اللاجئين الفلسطينيين، وأدى امتناع البعض عن التسجيل حينها إلى تصنيفهم لاحقاً كـ*“غير مسجلين”*، مما حرمهم من خدمات “الأونروا”. واليوم، بعد إعلان الوكالة إغلاق باب التسجيل في مشروع التحقق الرقمي في 22 كانون الثاني الماضي، تتجدد المخاوف من أن يكون الهدف الحقيقي لهذه الخطوة ليس مجرد إحصاء، بل إعادة تعريف هوية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفق اعتبارات سياسية وديموغرافية جديدة.