أيها الحاج انتبه.. الذّكر روح الحجّ ومقصده
من المظاهر الغريبة التي لا تخطئها عين الحاج وهو في ربوع الديار المقدسة مجللا بأنوار الحجّ غفلة الكثير من الحجاج [والمعتمرين في عمرتهم أيضا] عن ذكر الله سبحانه وزهدهم وتهاونهم وتفريطهم فيه. بدءا من التلبية وصولا إلى ترك التكبير أيام التشريق، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل أَيّ الحجّ أفضل؟، قال: «العَجُّ والثَّجُّ» رواه الترمذي وغيره، والعج هو رفع الصوت بالتلبية. والثج هو نحر البُدن.
قال الله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات}، قال سيدي عبد الرحمن الثعالبي: “أمر الله سبحانه بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات”. ومع ذلك ترك كثير من الناس التكبير أيام التشريق وخاصة بعد الصلوات بسب فتوى خاطئة لبعض المعاصرين خالف بها الأئمة والسلف الصالحين؟؟؟
إن ذكر الله عز وجل مقصد من المقاصد التي شرع لها الحجّ كما توضحه النصوص السابقة، وكما يؤكده قول الله عز ذكره: {الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب * ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتُم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم * فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا…}، فقد تكرر فيها الأمر بالذكر أربع مرات، وبعدها جاء قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} خامسة مؤكدة. وزاد تأكيدا بقوله جل وعلا: {وأذن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات..}، ونص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إنما جُعل الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل» رواه أحمد وغيره. وهكذا كل العبادات إنما شُرعت لذكر الله، فالصلاة مثلا قال فيها الحق سبحانه: {أقم الصلاة لذكري}، أي: لأجل ذكري بها.
وأمر آخر مهم يتعلق بالذكر في الحج يغفل عنه كثيرون أيضا، وهو أن ذكر الله هو الميزان الذي يتفاضل به الحجيج في الأجر، قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: “أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله عز وجل، فأفضل الصُّوام أكثرهم ذكرا لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرا لله عز وجل، وأفضل الحاج أكثرهم ذكرا لله عز وجل، وهكذا سائر الأحوال”. وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثا مُرسلا في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي أهل المسجد خير؟، قال: أكثرهم ذكرا لله عز وجل، قيل: أي الجنازة خير؟، قال: أكثرهم ذكرا لله عز وجل، قيل: فأي المجاهدين خير؟، قال: أكثرهم ذكرا لله عز وجل، قيل فأي الحجاج خير؟، قال: أكثرهم ذكرا لله عز وجل، قيل: وأي العباد خير؟، قال: أكثرهم ذكرا لله عز وجل”، قال أبو بكر: “ذهب الذاكرون بالخير كله”، ورواه ابن المبارك بلفظ، قيل: يا رسول الله أي الحاج أعظم أجرا؟، قال: “أكثرهم لله ذكرا”. فلم يبق أمام الحاج إلا أن يكثر أو يقل، {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا}. وخير لحجاجنا الميامين أن يملأوا أيام حجهم خاصة أيام عرفة والعيد وأيام التشريق بذكر الله تعالى تكبيرا وتهليلا وتحميدا، طاعة لربهم واستمساكا بهدي نبيهم، على أن يضيعوا تلك الدقائق الغاليات في قيل وقال، وفي الدردشة حول سفاسف الأمور وسخافها!.
وإن القلب ليحزن لكثير من الحجيج الشباب منهم خاصة حين يراهم في منى متعطلين متبطلين متفكهين بالكلام في كل شيء إلا ذكر الله، فلا يلوون إليه إلا قليلا قليلا، خلافا لهدي النبوة، جاء في صحيح البخاري: “وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قُبَّتِه بمنى فيسمعه أهل المسجد، فيُكبِّرون ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرا. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات، وعلى فراشه وفي فُسطاطه، ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا. وكانت ميمونة تُكبر يوم النحر. وكن النساء يكبرن خلف أَبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد”. فهذه سُنّة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام التي اتبعها والتزمها الصحب الكرام، والتي يجب على كل حاج اتباعها والتزامها حتى يكون ممن تبعهم بإحسان.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة