أمد/ بعد أكثر من ثلاثة عقود على توقيع اتفاق أوسلو (13 أيلول/سبتمبر 1993)، لم يعد النقاش حول الاتفاق مجرد تقييم لتجربة سياسية ماضية، بل أصبح جزءاً من مراجعة أوسع للمسار الفلسطيني في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم والمنطقة. فما بين توقيع الاتفاق في ظل هيمنة أمريكية أحادية القطبية، وبين واقع اليوم حيث تتشكل ملامح نظام دولي متعدد الأقطاب، تبدلت معادلات كثيرة، ما يفرض إعادة قراءة التجربة وما خلفته من نتائج، سلباً وإيجاباً.
لقد وفر أوسلو اعترافاً دولياً بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً، وأسس لمرحلة انتقالية كان من المفترض أن تقود إلى دولة فلسطينية مستقلة. لكنه تعرض للانقلاب الإسرائيلي منذ اغتيال رابين وصعود اليمين المتطرف، الذي رفض مبدأ “الأرض مقابل السلام” وسعى إلى فرض واقع استيطاني إحلالي يلغي أي إمكانية لتجسيد حل الدولتين.
في المقابل، تعاملت بعض القوى الفلسطينية مع أوسلو وكأنه خيانة، دون أن تقدم بديلاً عملياً سوى تكريس الانقسام وإضعاف المشروع الوطني.
اليوم، وفي ظل حرب الإبادة على غزة وما أفرزته من كوارث إنسانية وسياسية، يتضح أن تجاوز أوسلو لا يكون بالهدم ولا بالتنصل، بل بمراكمة الإيجابيات وتصحيح المسار نحو استراتيجية وطنية جديدة. استراتيجية تقوم على وحدة الموقف الفلسطيني، وعلى تفعيل عناصر القوة السياسية والقانونية، مع الاستفادة من التحولات الدولية التي لم تعد تقف عند حدود الإدانات اللفظية.
في هذا السياق، يبرز الدور السعودي المتصاعد، ليس فقط إقليمياً بل دولياً، من خلال المبادرة السعوديةالفرنسية، والمشاركة البريطانية، لإعادة الاعتبار إلى حل الدولتين، والانتقال من مرحلة الحديث عن “إحياء العملية السلمية” إلى السعي لفرض تنفيذها على الأرض.
أهمية هذا الدور أنه يفتح أفقاً جديداً: فالسعودية، بثقلها السياسي والاقتصادي والديني، قادرة على إعادة بناء الموقف العربي الموحد، وإقناع القوى الكبرى بأن تجاهل الحل السياسي لم يعد ممكناً بعد “طوفان الأقصى” وما تبعه من عدوان على غزة.
إن انخراط فرنسا وبريطانيا في هذه المبادرة يعكس تطوراً مهماً في المواقف الأوروبية، حيث باتت العواصم الغربية تدرك أن استمرار سياسة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي يشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي والدولي معاً.
ومع تصاعد الانتقادات الشعبية والرسمية في الغرب لجرائم الحرب الإسرائيلية، تزداد الحاجة إلى مبادرة دولية ضاغطة، لا تكتفي بإدارة الصراع بل تسعى إلى حله وفق المرجعيات الدولية.
وعليه، فإن القراءة الاستراتيجية تفرض علينا اليوم ما يلي:
1. توظيف المبادرات الدولية، وخاصة المبادرة السعوديةالفرنسية والمشاركة البريطانية، لتكريس شرعية حل الدولتين دولياً.
2. التحرر من أسر الانقسام الداخلي، واستعادة وحدة الموقف الفلسطيني بما يعيد لمشروعنا الوطني مكانته.
3. الاستثمار في التحولات الدولية، حيث لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الأوحد، بل أصبحت جزءاً من معادلة جديدة، فيما تزداد قوة الأطراف الأخرى (أوروبا، الصين، روسيا) في التأثير على مسار الصراع.
4. المراكمة على إنجازات أوسلو (الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مكانة منظمة التحرير، المكانة في الأمم المتحدة)، مع تجاوز ثغراته التي استغلها الاحتلال لتكريس استيطانه.
إن أوسلو، رغم ما له وما عليه، أصبح جزءاً من التاريخ السياسي الفلسطيني، والمطلوب اليوم ليس العودة إليه أو الانشغال بجلد الذات حوله، بل الانطلاق من واقع جديد، تؤشر ملامحه إلى إمكانية فرض حل الدولتين عبر توازن دولي وإقليمي متغير. وفي قلب هذا التوازن تبرز السعودية كقوة عربية تقود مع فرنسا وبريطانيا ومعهم أيضا الصين وروسيا مساراً جديداً، يعيد وضع القضية الفلسطينية في صدارة الأجندة الدولية، ويمنح الشعب الفلسطيني فرصة جديدة للتمسك بحقوقه الوطنية في الحرية والاستقلال، وعاصمتها القدس.