أمد/ لم أستوعب بعدُ أنني امرأة تُرى مثل باقي نساء العالم، وأنا أجفف أرضية خيمتي من مياه المطر المتساقطة من سقف الخيمة، وأحاول إنقاذ فرشتين وغطاءين فقط، كل ممتلكاتي بعد حربٍ شرسة على قطاع غزة امتدت لأكثر من عامين. أن هناك عالمًا يهتم بالمرأة ويطلق حملاتٍ باسمها، وكأننا عنصرٌ رمزي في إحصائية لا يطالها صوتنا.
حين سمعت عن حملة 16 يومًا لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، طرحتُ أسئلة ليست للبلاغة بل للاتهام: هل يراني هذا العالم إنسانة؟ هل خطر بباله وجهي الشاحب حين بدأ العدّ؟ هل يعلمون أني أمقت الصباح لأن ذباب خيمتي هو من يوقظني؟
 وأن صنع فنجان قهوة على نار الحطب صار عنفًا نفسيًا؛ فالدخان يلطخ يدي قبل أن ألمس الفنجان؟
مع أول شعاع شمس، يبدأ العنف اليومي:
أحمل جالونات المياه لمسافات بعيدة للاستحمام بماء ملوّث، أطهو فطورًا غير صحيا، أغسل ملابسي بيدي وسط الخيام المتلاصقة حيث لا خصوصية ولا هدوء، وأهرول خلف إشارة إنترنت ضعيفة لأتمكن من عملي.
الجوع والعوز يكمّلانه: نساء يُعطين أطفالهن كسرة خبز بينما لا تكفي نصف وجبة في اليوم، والمرأة قد تضطر لإنفاق ثمن الملابس على كيلو بندورة وقت المجاعة.
 لا كهرباء لنكوي بها ثيابنا، لا حمّام خاص، طوابير الحمامات في الشوارع، والخوف يرافقنا كل لحظة.
حتى الطعام أصبح محفوفًا بالخطر: خبزنا المعلّق في الخيمة خوفًا من الفئران، ونحن نراقب كل حركة خشية أن تسرق لقمةً لا تعود.
ثم هناك ما لا يحتمله القلب من مشاهد:
أمي السبعينية تبكي كلما عثر أحفادها على قطعة ملابس تحت ركام منزل اندُثر: «يا حرام… كيف حال فراشنا تحت الركام بالمطر؟» أمي التي تتنقّل من خيمة إلى خيمة، تشتاق لليالي التي كان فيها البيت جامعًا لنا تحت سقف واحد، تحلم بالعودة إلى حياتها المستقرة كما قبل الحرب.
وأمهاتٌ أخريات، يحملن الألم صامتات: أمهات هرعن إلى المستشفيات للتعرف على جثة ابنهن المحترقة، وأخريات ينتظرن خبرًا يطمئن أن ابنهن أسير لا شهيد، وثالثات دفن أولادهن بيدهن لأن لم يجدن من يساعدهن. بعضهن شاهدن جثثًا محترقة عليها آثار التعذيب، أو جثثًا لم يُعرف هويتها إلا برائحة الرحيل وذكريات متفحمة.
 رأى البعض الكلاب تنهش بقايا الجسد، وصوت ذلك المشهد لا يزول.
وهناك الأسيرات نساء تم اقتلاعهن من بيوتهن على يد الاحتلال، أو خلال نزوحهن قسرا، وحُجزن في ظروف احتجاز غير إنسانية، ومنهن من تعرّضن للاغتصاب. 
هذا الواقع يجب أن يُقال بصراحة: نساؤنا المعذّبات في سجون الاحتلال تعرضن لانتهاكات جسدية وجنسية تجاوزت كل حدود الإنسانية.
 أنا لا أصف الألم تفصيليًا لإعادة صدمته، بل لأقول للعالم: اعترفوا بهذا الظلم، ولا تكتفوا بالتضامن الرمزي إذا لم يُرافقه فعل حقيقي.
العنف الذي أعانيه هنا أنا وكل إمرأة ليس يومًا أو شهرًا؛ إنه موت بطيء يعيش معنا كل لحظة: ماء ملوّث، طعام ناقص، دواء غائب، حمام في الشارع، لا كهرباء، لا خصوصية، وخيمة تلتف على رقبتي كحبل إعدام. 
ألعن العالم حين أُشعل النار لأطهو فطورًا لا يكفي. ألعنه وأنا أغسل ثيابي بيدي، وأنظر إلى ملابسي مجعّدة لأن لا مكوى. ألعنه وأنا أكتب في الظلمة لكم بينما كل حواسي تحرس خبزنا المعلق خشية الفأر.
أطالب العالم بما لا يُطلب عادة: ليس صورًا ولا وسمًا عابرًا، بل اعترافًا وإجراءً حقيقيًا. 
اكتبوا باسم كل امرأة من غزة: هذه امرأة معنفة لأنها تحاول أن تعيش فقط. اذكروا أمهات الشهداء اللاتي عرفن مصير أولادهن بمرارة، واعتبروا الأسيرات اللواتي تعرضن لانتهاكات جنسية موضوعًا جادًا في حملاتكم، لا مجرد محتوى صادم للترويج.
أعيدوا لأمي ولنا إنسانيتنا، سقفًا آمنًا، مياه نظيفة، دواء متوفر، حمامًا خاصًا، غرفًا تحفظ الخصوصية،  أعيدوا لنا لحظة نرى فيها وجوهنا في مرآة دون دخان، وابتسامة أمي إذ تجمعنا تحت سقف واحد فتقول: الحمد لله عدنا للبيت.
ستة عشر يومًا لا تكفي… لكن كلمة حق واحدة مع فعل حقيقي قد تغيّر مسار حياة عندنا.
لا تتحدثوا عن المرأة وأنتم لا تسمعون أنين أمي وقت حنينها لحياتها، وأنين كل أم تعرفت على جثة ابنها، وأنين الأسيرة التي فقدت كبرياءها في سجن لا يرى إنسانيتها.

 

شاركها.