أمد/ قال: هلْ فارقتني كي أعود لهَا؟! أريد أن أبكي، ولا أعرف ، أريد أن ينزل علينا الصبر، ولا يأتي، فقع من قلبه صوتا مدويا. أية بربرية هذه التي تحكمنا.. أية همجية التي علينا أن نعيش فيها، حتى مع الإبادة العلنية. يا عالم، فين حقوق الإنسان، من لدماء النساء و الأطفال، جرائم حرب عالمية؟! جريمة فيتنام، و قصف وحرق أكثر من مليونين أنسان في درسيدن، كيف يحدث هذا في مدينة البحر الحلوة؟ من یرید أن یراھا كما كانت. لكن أخشى أن أرى موتھا. ھي بالذات. ماتت، وأن أهلها یعرفون الموت جیدًا معرفتهم بالحیاة..الحياة نفسها كانت سبب كافي للموت.
قلت له: قل لي.. ما سبب الموت الحقیقي؟
كان الأستاذ شاردًا. فقال لي باضطراب، والدھشة مرتسمة على وجهه : نعم. آه.. موتنا، أم موتھا؟!
من أينَ أبدأ؟ من المدينة التي أحبها وشغف بها عقود، فأحبته وبادلته الحب وأكثر، مدينة البحر.. كانت حكايات وصور .. الآن صور بلا حياة، لا تنتظر شيئاً، أو قيمة أو معنى بعد ذلك، كلها مجرد صور اللامعنى، و الذهاب بها نحو ما هو أشد فتكاً وكارثية، ليصلوا بها إلى الفوضى، و يصبح المستقبل غامضًا عندما يكون لدينا إحساس غامض بأننا قد نفهمه بشكل عقلاني ولكننا لا نستطيع ذلك.
الحياة بنت المدينة، المدينة كانت تحب الحياة. لكنها تحت الخراب..خصوصًا عندما يحكمها المغفلين.المدينة بالنسبة لهم جُعلت للهتافات المغلظة، من أجل حشد الناس، لحقن آذانهم بالأكاذيب.. فلا وحدة ولا حرية ولا استقلال، كانت الحياة ابنة المدينة الشرعية، ترخ كالمطر فتبل القلب الذي يبّسه حناجر البلهاء، لو كانوا منها لكتبوا مئات القصائد الحلوة، فلا أترك فيها ما يسقمني.
شعراء المدنية ليسو بمأمن عن القنابل الغبية التي تهدم الحياة، كذلك قصائدهم، من السهل أن تصبح نهبًا للمجنزرات. يمكن أن تتمدد قتيلة، كخشبة مسرح هشمتها المعاول، فتنزف مئات الحكايات الغريبة، التي ظلت لسنوات كثيرة تغسل أعين الناس التي لوثتها العوادم، و الوعود، والكلمات، والتراب. كثيرا ما حاولت أن أكتب عن التراب، قصيدة أو مسرحية، لا يهم! المهم هو اصطياد الحالة، وكشف شعور التراب وهو يغشى العيون، أو يلهو داخل الأنوف ليخلف التهابًا لا آخر له، هذا التراب لعين، ابن كلب، لأنه ليس ابن المدينة.الممتثل لكل ما فيها من قسوة.
مسكين يا شعب المدينة. فعند مشاهدة التراب مع بلاهة ودجل ثنائية الجحيم ، أيقنت أن أهل هذه المدينة، نساءً ورجالاً، يستحقّون الجنّة، لسبب أساسي، هو أنهم يتعرضون للكذب والنفاق والخديعة كلّ يوم وعلى مدى عقود طوال؛ العدل أين العدل؟
قلت: سنرسل في طلبه، بعد أن ینتھي كل شيء.
يا عالم يا ناس، كيف وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل؟
قلت له: نحن الذين يتم استقطابنا ودفعنا إلى الحزبية المقيتة، ومخطط الانقسام والخراب الصهيوني، حتى أصبحنا ندمنهما من جهة، ونمارسهما كأمر من طبائع الأمور، وحتى أصبحا يشكلان وعينا وعقلنا وطريقة تفكيرنا ونمط حياتنا. نحن الذي تحولنا إلى كائنات تنهش بعضها ونفسها، وتنسى القضية الأساسية بالمزيد من نهش نفسها ونهش بعضها البعض. بل وبالمزيد من الحزبية والانقسام وتبرير كل شيء بمقابل وبدون مقابل، لدرجة تبرير الأذى الذي يلحقه الآخرون بنا، وكأننا نتلذذ بإيذاء أنفسنا.
نحن الذين حولونا مع سبق الإصرار والترصد إلى قطيع من الحزبية ولانقسام والتناحر والمصالح الخاصة التي لا تشعر ببعضها البعض، بل تمعن في أذى بعضها البعض، والبحث عن مبررات لكل من يضربها بحذاء الانقسام الثقيل ويستهتر بعقلها ومستقبلهم، وحياة الأبرياء لكي يبرر إعدامهم ومسحهم تماما من على وجه الأرض. ويتعامل معها كحيوانات لا قيمة لها ولا سعر ولا عقل.
قال: رغم كثرة ماكتبت وأكتب مراثى ، فأنا أفوت مراثى كثيرة ، لأنها تخصنى وخارج المجال العام ، رغم انى لم أكن أصدق ، الا أنى بلعت الخدعة.. بلعت الخدعة لأننى موقن أننا نعيش الحياة ك” مأساة ” لقد صارحتك من قبل أنني لم أعد قادر علي التصريح بأغلب ما يدور في عقلي من أفكار.
سألت نفسي: ما الذي یجعلنا نحقد على كل ما ھو جمیل، وندمره بأیدینا. لنفقد أعز ما نحرص علیه؟
ھنا تركته لیفكر ویتصرف. دار بخاطره ‐ أن أستطاع‐ أن
يقبض على ثنائية الجحيم ويجلدھم جمیعًا حتى الموت، بدون رحمة. لكن، إذا فعل ذلك، فإنه يكرر نفس ما فعلت. مسكینة الناس!! لا يوجد عزاء للنفس، و عذابها الأبدي.
في هذه العتمة تتناسل حكايات لا حصر لها، أقلها وأقصرها لا يخلو من حنق على ثنائية الجحيم أو تعجب منها، بل سخرية، يكاد معها يتحول هذا العهد كله إلى مأساة سوداء
ـ فثمة أمور كثیرة، تتدفق في النفس من الماضي البعید، والحاضر القریب، ومن الشرق والغرب. و ثمة صدامات مستمرة لا توحي نھایاتھا بلقاء نهائيا، ولا ببدایة سریعة للفھم والتفاھم، فھذا الجنس البشري المجنون ملوث.
منذ اختراع الفأس، وحتى عصر القنابل الذكية.
ألا تبدو تلك الفكرة دراماتيكية؟! هي كذلك بالفعل، لكن سأقول تجاوزًا ..كل ما في العالم غبي لدرجة تمنعك عن تصديق أن للموت رائحة وملمس، شيء واحد فقط هو الذكي، القنابل الذكية، إذ أنها لا تخطئ الهدف مهما كانت مراوغته. يبدو أن مخترعيها سرقوا كل الذكاء من العالم، ليحتفظوا به لها وحدها، لأطفال ونساء المدينة.. هناك ايضا الشباب. كانوا عيدنا وبهجة انفسنا وسرور فؤادنا.
لكن التاريخ لا يكتبه القتلةُ دائماً، ولو سيطروا على أحداثه لفترة، لا شيء يعوّض الفقدان ولا أمر يُنسي كمّ التجارب والقسوة والألم، ولا شيء يعوّض الشوق لصوتٍ ولابتسامةٍ أو لفكرة، وموقف أو لحدّة ذكاء وسرعة بديهة، أو حتى لنزعة غرور، المشوار ولا التعب ولا التنازلات و لا التضحيات. ولا الحفر في الصخر ، لازال في مهب الوهن، بوجه قسوة وتوحش القتلة.
لو تيسّر له أن ينجو من مقتلةٍ، أو من مجزرة أطاحت بعمره وأطاحت مع العمر بمشاريع واحتمالات وأحلام لم تعرف حدوداً أو تواضعاً أو اكتفاءً بما تحقّق على نحو يصعب أن يُبقي أحداً حيادياً تجاهه. من يستوعب الحياة أكثر ، يدرك أن التاريخ لا يكتبه القتلةُ دائماً، ولو سيطروا على أحداثه لفترة. فالتصدي لهم أستمرار للحياة، وهذا في ذاته ثأر عام، وثأر خاص، هو في معنى ما ثأر لكل المظلومين والأبرياء.