أرجوحة ماغوطيّة أمد للإعلام

أمد/ “أيّها الاسم الصغير كتابوت طفل!”، بداية صادمة ومربكة لكتاب “الأرجوحة” للكاتب محمد الماغوط (وسمها الناشر بمسرحيّة، ووجدتها تميل إلى الرواية، 255 صفحة، 11 فصل، صدرت عن دار المدى للثقافة والنشر، دمشق)، ناقشناها في لقاء “منتدى حنا أبو حنا للكتاب” الحيفاوي الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009).
بطلها (فهد التنبل) متمرّد على التقاليد والعادات وكلّ ما هو مألوف “لقد كان قروياً حزيناً لا تزال رائحة العنب والتلال الجرداء متخمرة في شعره، يشق طريقه كالمحراث الصغير بين النساء ويخلفهن وراء سريره كالأثلام، في كل المدن والأقبية والمكاتب التي عاش فيها كصحفي وكمتشرد”، وأخذتني شخصيّته إلى ظاهرة الهيبيز (Hippies) (حركة شبابيّة نشأت في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، ظاهرة شبابيّة احتجاجيّة متمرّدة، ميّزوا أنفسهم بإطالة الشعر ولبس الملابس الفضفاضة والتجوال حفاة، الاستحمام على فترات متباعدة وتغيير الملابس على فترات أبعد، عاشوا في الشوارع والمتنزهات العامة والميادين).
إلى أن جاءت “غيمة” وأحكمت اللجام الحرير بين القواطع، وحكت بأظافرها الجميلة الصافية قشرة التابوت وبريق المرأة، وأغلقت كل الشوارع، ولملمت كل أوراق الخريف ووضعتها في أنبوب المدخنة للذكرى، خربطت الأوراق وقلبت كل شيء رأساً على عقب.
للمنفى، في الوطن وخارجه، حضور طاغٍ، فجاء في الفصل الأول “لأجلك أحني عنقي كالخيط أمام إبر المنفى”،
“امرأة من الشمال، أو امرأة من الجنوب.
تسكع في بشمزين، ولهاث في باريس.
نواح في هذه النافذة، وزغاريد في تلك.”
شطح بنا منذ البداية إلى المنافي البعيدة؛ إلى بشمزين (قرية لبنانية، وصفها الروائي ربيع جابر في روايته “أميركا”: “هذه قرية في شمال لبنان هاجر ربع سكانها إلى أميركا في تلك الفترة”) وإلى حضن باريس، وقصيدته “ريح المنفى” تلاحقه كظلّه.
أعتقل فهد وتم تعذيبه بوحشيّة، والتحقيق معه حول آلة صغيرة بعد أن وشى به أحد الجيران أنّه يملكها، وتشهد ضدّه جارة تراقبه من شباك العمارة المقابلة، وتبيّن لاحقاً أنها لعبة لأحد أطفال العمارة، حاول تصليحها “لأن أمّ الطفل كانت منشغلة عنه في حِفظ النسل”، وما أكثر الوشاة في أوطاننا، “لم يعد يعرف الإنسان عدوّه من صديقه، حتى جوادك قد يكون مكلفاً بمراقبتك”! مما يؤدي إلى الإحباط نتاج العهر المستشري، والتخوّف من أيّة حراك جمعيّ، ويصل إلى قناعة بأنّه من المفضّل أن تغدق عواطفك على الكلاب، بدلاً من البشر. يتوجّب الحذر الدائم، لا تقم بإعداد الشاي إذا كانت الأقداح يملكها سواك، وعليك أن تعيش حياتك كما لو أن لك ذراعاً واحدة فقط، ويصل إلى طريق مسدود مُحبِط “لا تكن متفوقاً في عالم منحط لأنك ستكون بقعة عسل في عالم الذباب”.
ينقلنا بين الفقر والحب والمساكنة، من القرية ورتابتها وريفها إلى المدينة والحريّة وصخبها، بين التناقضات المجتمعيّة والفروقات الطبقيّة والقادة يطلّون من أبراجهم العاجية، يراقبون من علٍ.
يصوّر المدينة بعيون والدة فهد القرويّة حين تتجوّل محطّمة ناقمة في طرقاتها المليئة بالبغايا، لتبقى القرية وجمالها “نقطة زيت كبيرة في ماء الوطن”، سهولها غنيّة بالأزهار وبشقائق النعمان.
ينتقد الريف؛ أمّه القرويّة البسيطة ووالده الأبسط، السذاجة، الاستجداء أمام لقمة العيش وغياب التوعية بحقوق البشر وضياع حقوقهم وتهامس أهل البلدة حول سجن الفهد لأنّه تناول “الكادحين” في مقالاته، مصطلح رهيب ومخيف لا يفهمونه.
يأخذ بيد القارئ ليشرب فنجان قهوته بمعيّته، ليتجوّل معه في الشوارع والأزقّة والحانات.
للجنس حضور لافت؛ لفت انتباهي تصويره البانورامي للقاء رومانسي بين غيمة وفهد في غرفة منسية على سطح دمشقيّ يختبئ بها خوفاً من الاعتقال (أعادني لمشواري الأول إلى باريس، حيث لفتت انتباهي غرف/ بركسات على الأرْوِفة، إن صحّ التعبير، سكنها في البداية المهاجرون من شمال أفريقيا، وتحوّلت لاحقاً إلى غرف مساكنة رخيصة، وما زالت شاهدة على الجريمة)، وكذلك الأمر بالنسبة لحضور المرأة الإغوائي الذي يفتح كلّ الأبواب الموصدة “توصلت أخيراً بقليل من أحمر الشفاة وصباغ الشعر لاختراق أخطر سور في تاريخ المدينة لتعرف كل شيء مما يجري وراء الكواليس”.
لجأ الكاتب إلى لغة الحوار، وراقت لي حوارات الأسرى والمعتقلين؛
“الثورة الجائعة تولد جائعة وتموت جائعة لأنها لا ترتوي من شيء.
قروي نهم في مطعم يغص بالأطباق، ستزداد شهيّته كلما سمع رنين الصحون وارتطام الملاعق.
هل تعلم كم جورباً عنده؟ لن تصدق إذ قلت لك: ما يكفي لنصف سكان طوكيو… لأنه قضى كل طفولته ومراهقته وهو يلبس جوارب مرقّعة.
الفهد ومئات غيره هم طعام ضروري لثورة قامت لنقض مبادئهم ونسفها بالحجارة”. (ص. 104)
وكذلك الأمر حين التقيا فهد وأبو سليم، ابن قريته، خلف القضبان:
“أيها الصحفي… يا ابن ضيعتنا… لماذا لا تضع على رأسك جريدة كي أعرفك؟
ولماذا لا تضع أنت محراثاً على ظهرك حتى أعرفك؟”
تناول الفساد المستشري في السلطة والمتنفّذين؛ إن شعوباً جريحة برمّتها يُساوم عليها أمام قدحي خمر، وغياب العدالة، فحين لا تشمل الجميع وتستثني فرداً واحداً ولو في مجاهل الإسكيمو هي عدالة رأسها الظلم وذيلها الإرهاب، والرخاء الذي يرفرف على موائد العالم، ويتجاهل مائدة واحدة في أحقر الأحياء هو رخاء مشوّه، الكل أو لا شيء طالما أن الشمس تشرق على الجميع.
ينادي الماغوط بالثورة والنهوض نحو الحريّة ويصل إلى نتيجة مفادها أن الأمور واضحة كضوء الشمس، هناك حرية وهناك عبودية، وكل منهما ليس بحاجة إلى سمسار أو مدير أعمال يفتح محلا للترويج لهما في الأسواق.
ويقولها بصريح العبارة “وهل يمكن لكل بنادق العالم أن ترغم عصفوراً على أن يغنّي إذا كان لا يريد ذلك؟ وهل تستطيع أعظم هيئة قضائية في التاريخ أن تقاضي أحقر ديك في أصغر قُن في العالم لأنه لا يصيح عند شروق الشمس؟ طبعاً لا تستطيع، ولذلك اختلط الحابل بالنابل، الصباح بالمساء، الجبان بالشجاع، والضحك بالعواء”.
ويعود ليلوم المتسلّط الحاكم: “حرمتموني شهرا كاملا من غطاء أستر به جسدي، فأي وطن هذا الذي يتأثر من دفء بطانية أو وسادة؟ إنها الرغبة الوراثية في الذل… المتعة الساديّة في تأمل العائلات الممزقة والإصغاء إلى ملايين الأفواه التي تصرخ: النجدة النجدة! لقد أحرقتم المراكب وجعلتم من أشرعتها عمائم وقلنسوات للتنابل. قصفتم جذع الشجرة، وتركتم سبعين مليوناً يحمون صلعاتهم الملساء بالصحف وراحات الأيدي. لقد نهبتم الأرض خيرة فلاحيها وسواقيها، والشوارع زهرة أحبابها”. (ص.131)
تناول الماغوط الغيبيات؛ حين لجأت غيمة للمنجّمة نظمية. اكتشفت أنها كانت في صباها مومساً، وفي كهولتها قوّادة، وفي شيخوختها صارت منجّمة، تجني المال الوفير لمجرد أن تقول لكلّ من يلجأ إليها ما يحلم به وتبيعه الأوهام، “تقول الحقيقة بكاملها لأن نصفه قد يحدث، ونصفه الآخر قد لا يحدث. ولذلك لا بد أن تكون الحقيقة هنا وهناك”، وخاصة أن الرجل الشرقي يحلم بامرأة وسلطة وطعام. خلاصتها في الحياة.
وظّف الماغوط، كعادته، أسلوب السخرية السوداوية القاتلة، فباتت ماركة مسجّلة؛ “منشغلون في موضوع آخر كالمرأة التي تحلب بقرتها وهي تتحدّث مع جاراتها عن عزق الباذنجان”، وحين صوّر الوهم والعجز والخذلان “إن العجز الحيواني في التفوق وبلوغ المآرب أشبه بهررة ترى قطعة من اللحم الني خلف زجاج النافذة. لا تستطيع اختراقها، ولا هي تستطيع تجاهلها وإنما تذهب وتجيء، وتحوم وتموء بألسنتها الحمر الصغيرة حتى يدركها الإغماء وتدرك مرغمة على أن القطعة الحمراء هي مجرّد قطعة من اللحم” (ص. 30)، شمّ ولا تذوقّ. ولتصوير المفارقات والحرمان يقول بحِرقة “انظروا إلى هذه الشمس، لا ينقصني سوى قطعة صابون حتى استحم بعرقي”. وتصل ذروتها حين يقول: “بحث فهد التنبل عن ذراعه دون جدوى إذ كان لا يعرف إن كانت مطويّة تحت عنقه أم أنّه نسيها في غرفة التحقيق” (ص. 65)
قرع الماغوط جدران الخزّان حين تناول أقبية المعتقلات والسجون (سنين كثيرة قبل مسرحيّة الفزعة الموسميّة التي شاهدناها مؤخراً حين تباكى العالم حول ما جرى في أقبية صيدنايا، ولكن لم يصغِ له أحد)، وحال ساكنيها، صوّر بحرفيّة الاعتقال والزنازين والعزل الانفرادي وجريمته النكراء “كنت أحبّ وطني”، عذاب حلاقة الدقن في السجن “في الصباح الباكر وبتلك الموس الصدئة والماء المثلج، عملية استشهاد حقيقية” (ص.49)، ودرب الآلام التي يمر بها المعتقل في طريقه إلى غرفة التحقيق، ومراسيم التحقيق، ووالدة تجرجر أذيال الخيبة باحثة عن فلذة كبدها، ابنها المعتقل، دون جدوى متمنيّة “أن تفقأ عيناي هاتان مقابل أن أزرّر له قميص وهو جاثٍ على ركبته أمامي”، وسخرت منها تلك الحكومة وأهانتها حتى العظام، إنهم يفضّلون النظر ألف عام في قدح ما على النظر في وجهك ثانية واحدة.
جاءت النهاية مسحّراتيّة؛ غيمته نائمة ووطنه يشخر، وعليه وحده أن يبقى مستيقظاً، فلا بد من كلب حراسة لهذا الشرق الذليل المنهوب… هذا الشرق الذي يرقد خارج لحافه، ومن صرّته تشرب خيول الغزاة وتصهل.
صرخها الماغوط مجلجلة بأعلى صوته “لقد آن فطامك أيها الرصاص”، ولكن لم يصغٍ له أحد.