أمد/ إذا ما أُعلن، يوم الخميس القادم، عن فوز الشاعر أدونيس بجائزة نوبل للآداب، فلن يكون ذلك إلا اعترافاً متأخراً بشاعرٍ عاش حياته في ضوء اللغة، وبنى من الكلمات وطناً بديلاً عن الخراب.
لن يكون الفوز مفاجئاً، لأن أدونيس منذ أن خرج من رحم القصيدة، لم يكتب الشعر فحسب، بل أعاد بناء علاقة الإنسان بالعالم من خلال الكلمة، فلقد جرّد اللغة من طقوسها القديمة، وحرّرها من أسر التقليد، وجعلها كائناً حيّاً يتنفّس، ويثور، ويشكّ، ويحلم.
منذ دواوينه الأولى، كان أدونيس يقاتل من أجل فكرة جديدة عن الشعر، عن الإنسان، عن الحرية، ولم يكن شاعراً يكتب من فوق الأطلال، بل من داخل الزلازل، فقد رأى في الحداثة قدراً لا مفرّ منه، وفي السؤال وسيلة للنجاة من الركود، وفي القصيدة بيتاً مفتوحاً على الرياح كلها.
أدونيس، الذي ولد في قرية صغيرة على الساحل السوري، وحمل اسمه الأسطوري كراية ضدّ الموت، لم يكتب ليصف، بل ليعيد خلق العالم، ففي لغته يلتقي التاريخ بالأسطورة، والميتافيزيقيا باليوميّ، والشرق بالحلم الإنساني الكبير.
ولئن اختلف معه الكثيرون، واتُّهم بالتجريد أو النخبوية أو الغموض، فإنّ كل تلك التهم لا تنتقص من جوهر ما فعله، فلقد نقل الشعر العربي من الإيقاع إلى الرؤية، ومن الوزن إلى الفكر، ومن التعبير إلى الاكتشاف.
أدونيس لم يكن تابعاً لزمنه، بل كان صانعه، ومحرّضه، وناقضه في آنٍ واحد، وفي زمن كانت القصيدة تستخدم لتبرير الأيديولوجيا، كان هو يكتب كي يحرّرها من كل سلطة.
أما مواقفه السياسية والفكرية، فهي، مهما بدت متقلّبة، كانت جزءاً من قلقه الوجودي والإنساني، فالشاعر أدونيس لا يبحث عن الحقيقة بوصفها يقيناً، بل كمسافة لا تطال.
إنه يكتب من موقع الشكّ لا الإيمان، ومن موقع التمرّد لا التسليم، ولهذا كثيراً ما بدا وحيداً، كمن يمشي في العراء حاملاً مصباح اللغة في ليل طويل.
في الخامسة والتسعين من عمره، لا يزال أدونيس يكتب وكأنه في بداياته، وصوته لم يهرم، بل ازداد صفاءً واتساعاً.
هو وريث السيّاب في مغامرته، وامتداد المتنبي في كبريائه، وابن الحضارات التي صهرتها النار لتولد من رمادها، وهو من القلائل الذين أنقذوا الشعر من الغياب، وأعطوه بعداً كونيّاً يتردّد في لغات العالم، من باريس إلى بكين، ومن بيروت إلى الأندلس.
نصف قرن من التجريب والمساءلة والتجديد جعل من أدونيس ليس شاعراً فحسب، بل مؤسسة فكرية كاملة، فوراء قصيدته تتوارى رؤيته للعالم، وموقفه من التاريخ والدين والسياسة، وإصراره على أن الحرية ليست شعاراً بل ممارسة لغوية وروحية في آنٍ واحد.
فإن فاز بجائزة نوبل، فسيكون الفوز احتفاءً بالشعر العربي كله، وبالحداثة التي عبرت إليه من خلال تمرّده وعزلته، وسيكون تتويجاً لرحلة طويلة من الكتابة التي آمنت بأنّ الكلمة قادرة على مقاومة السيف، وأنّ القصيدة تستطيع أن تعيد ترتيب الفوضى.
وإن لم يفز، فلن يخسر شيئاً، لأن أدونيس ذاته صار جائزةً تمشي على الأرض، وشاهداً على أنّ المجد لا تمنحه الأكاديميات، بل تمنحه القصيدة حين تظلّ قادرة على أن تنبت وردة في صحراء من الرماد.
أدونيس، أيقونة الشعر العربي الحديث، لم يكن شاعراً للمديح، بل للدهشة، ولم يكن صدى لأحد، بل صدى للغيب نفسه، وفوزُه المحتمل ليس مجرّد حدث أدبي، بل اعتراف بأنّ للعربية مستقبلاً في العالم، وأنّ لغتنا، التي حملها على كتفيه كشاعر منفرد، لا تزال قادرة على أن تكتب حضورها في سجلّ الخلود.