أمد/ خلال الأسبوع الماضي، عاش الوسط المقدسي على وقع حدث يحمل أبعادًا تتجاوز ما جرى داخل قاعة المحكمة، بعدما صدرت أحكام بالسجن لمدد تتراوح بين سبع وتسع سنوات ونصف بحق خمسة شبان من القدس، اتُّهموا قبل أعوام بالتخطيط لاغتيال إيتامار بن غفير في فترة كان فيها عضوًا في الكنيست، قبل أن يصبح وزيرًا للأمن القومي.

وبين مشهد عائلات تترقب الحكم ووجوه المتهمين التي تغيرها سنوات طويلة من الاعتقال، بدا وكأن القضية تُفتح من جديد على نقاش أوسع يتعلق بمسار التعامل القضائي مع الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة.

وينتمي الشبان الخمسة إلى جيل ولد في حقبة الانتفاضة الثانية، وشب على وقع أحداث عنف متكررة واقتحامات واجهت فيها القدس سنوات من التصعيد، اعتُقلوا بين عامي 2021 و2022 بعد مداهمات قالت عائلاتهم إنها جرت في ساعات الفجر، ترافق معها بحث مكثف وضغوط نفسية امتدت لفترات طويلة، وكانت التهم الأساسية تدور حول التخطيط لتصفية بن غفير، وهي تهمة نفت العائلات أن تكون قد تجاوزت مستوى “حديث شباب”، فيما اعتبرها الادعاء الإسرائيلي “تهديدًا أمنيًا جديًا”.

وبعد سلسلة تأجيلات استمرت أعوامًا، صدر الحكم وسط حالة ترقب وتخوف، فالعقوبات جاءت أشد مما توقع محامو الدفاع، الذين تحدثوا عن “قساوة غير مبررة” مقارنة بقضايا مشابهة في نطاق التهم السياسية، وأشاروا إلى أن الأحكام لم تراع سياقات التحقيق، وطبيعة الأدلة، والتسلسل الزمني للاتهامات.

هذه القسوة انعكست مباشرة على العائلات التي شعرت أن سنوات الانتظار تحولت فجأة إلى سنوات حكم في السجون، لتبدأ مرحلة نفسية واجتماعية جديدة من المعاناة.

ويشير فريق الدفاع إلى أن القضية اتسمت بتعقيدات غير مسبوقة في الإجراءات، من بينها استجوابات تمتد لساعات طويلة بشكل شبه يومي، وضغوط نفسية قالوا إن المتهمين تعرضوا لها خلال فترات التحقيق، ويؤكد المحامون أن الإجراءات نفسها كانت تُدار بطريقة تجعل من الاعتراف خيارًا لتجنب مزيد من الاستنزاف الجسدي والذهني، فيما تؤكد العائلات أن أبناءها خرجوا من التحقيق “أشخاصًا مختلفين” بسبب مدة التوقيف وسياقه.

وتكشف متابعة هذه القضية عن نمط بدأ يتكرر في السنوات الأخيرة، وهو ما يطلق عليه الحقوقيون الفلسطينيون “سياسة تغليظ العقوبات”، فالأحكام التي كانت في السابق تميل إلى الاكتفاء بقضاء عدة سنوات قليلة أو الاكتفاء بالاعتقال الإداري، باتت اليوم تمتد لثمانٍ وتسع سنوات وأكثر، خصوصًا في القضايا ذات الطابع السياسي أو الأمني.

ويبدو أن النظام القضائي الإسرائيلي يتعامل مع هذه الملفات من زاوية “الردع المسبق” لا وفق معيار “تناسب الجريمة مع العقوبة”، خاصة وأن المؤسسات الحقوقية ترى أن هذه السياسة لا تُرسِل فقط رسالة قاسية للمتهمين، بل تمتد لتطال مجتمعًا كاملًا، خصوصًا في القدس التي تشهد تحولات ديموغرافية حساسة، وضغوطًا تتصل بالوجود والهوية والممتلكات، فالقانون بالنسبة للكثير من الفلسطينيين بات جزءًا من منظومة تُستخدم كأداة ضبط وإخضاع، لا كإطار لتحقيق العدالة، أما الهدف، كما يراه الأهالي، فهو “خلق مناخ خوف” يخنق أي تعبير سياسي أو اجتماعي قد يفسر على أنه معارضة.

في المقابل، يروّج الخطاب الرسمي في إسرائيل إلى أن تشديد العقوبات ضرورة في ظل “تصاعد الدوافع القومية” لدى الشباب الفلسطيني، وأن بيئة التحريض الرقمية والسياسية باتت أكثر خطورة، غير أن هذا التفسير لا يلقى قبولاً واسعًا، لأنه يتجاهل الأسباب الجذرية المتمثلة في انسداد الأفق السياسي، وتدهور الظروف الاقتصادية، والاحتكاك اليومي المباشر مع قوات الاحتلال، وهو ما يخلق حالة احتقان تتفاعل يومًا بعد يوم في المدن والمخيمات.

ورغم أن القضية تتعلق بخمسة شبان، فإنها باتت تُقرأ باعتبارها مؤشرًا على مرحلة جديدة؛ مرحلة لا تكتفي فيها السلطات بالأدوات الأمنية والعسكرية، بل تستكملها بسندان قضائي يجعل الحياة أكثر تعقيدًا ويضيف عقبات أمام أي محاولة لبدء حياة طبيعية بعد الخروج من السجن، فالأحكام الطويلة تعني سنوات حاسمة من العمر تُقتطع، وتُجهض معها طموحات دراسية ومهنية وعائلية.

وعلى المستوى الاجتماعي، تعود الضغوط مضاعفة إلى الأسر التي تواجه تكلفة مالية ونفسية مستمرة، كزيارات السجون ومتابعة الملفات القانونية وتربية الأطفال في غياب آبائهم أو إخوتهم وتعايش دائم مع الشعور بالانتظار المرهق، وهي تفاصيل تبدو صغيرة في ظاهرها، لكنها تتحول مع الوقت إلى عبء ثقيل يتوزع على كل أفراد العائلة.

ولا تقتصر التداعيات على الحاضر، بل تمتد إلى المستقبل، فالشباب الذين يقضون سنوات طويلة خلف القضبان يعودون إلى مجتمع تغيّر بالكامل، وفرص عمل تقل، ومناخ سياسي أكثر توترًا، كما يواجهون نظرة مزدوجة: تُحملهم البطولة أحيانًا وتُحملهم المسؤولية أحيانًا أخرى عن ثمن دفعته العائلة. وهي معادلة لا تخلو من صراع داخلي.

وفي ظل غياب مسار سياسي قادر على معالجة جذور الأزمات، تبقى الأسئلة معلقة: هل هذه الأحكام مجرد رد فعل ظرفي؟ أم جزء من سياسة ممنهجة ستأخذ مداها في السنوات المقبلة؟، وكيف ستؤثر على الأجيال التي تشاهد اليوم أحكامًا قاسية بحق شباب في أعمارهم؟.

شاركها.