أفرغ الدبلوماسي الكويتي السيد سليمان الفصام خلاصة تجاربه الدبلوماسية التي امتدت نحو 40 عاماً في كتاب صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات الكويتية تحت عنوان «40 عاماً… رحلة مع قافلة الدبلوماسية». ويعتبر الفصام أن العمل الدبلوماسي مهم ومفيد، لكنه شاق ويحتاج إلى الجد والمثابرة وتحليل عميق وفهم لمعنى الحياة الدبلوماسية. وبقدر ما فيها من منافع وفوائد فإنها لا تخلو من المعاناة والمصاعب وأهمها مسألة تعليم الأولاد خلال التنقل من دولة إلى أخرى والترحال من بلد إلى آخر وكذلك الغربة والابتعاد عن الوطن فترة زمنية طويلة قد تكون سبباً في انقطاع الصلات الوثيقة بين الدبلوماسي وأصدقائه في الكويت. ويشير الفصام، في كتابه، إلى مفهوم غير صحيح لدى البعض عن الدبلوماسية حيث يسود اعتقاد بأنها نوع من الجاسوسية، وهي في حقيقة الأمر عمل مميز لتقوية العلاقات وتبادل المنافع وبناء الجسور بين الكويت والدول الأخرى، وهذا هو المفهوم الصحيح للدبلوماسية. وحرص السفير الفصام على إيراد أمثلة لكيفية بناء العلاقات وحلها وإدارة الأزمات وإعادة تطبيع العلاقات، مسلطاً الضوء على دور الكويت في الوساطة بين دولة وأخرى وكونها طرفاً فاعلاً ضمن عمل سياسي جماعي، وفيما يلي تفاصيل الحلقة السادسة والأخيرة:  

أسباب الغزو العراقي

لقد كان الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990م محاولة فاشلة من العراق لتحقيق ادعاءاته الباطلة وأحلامه في ضم دولة الكويت إلى العراق.

إن المتتبع لتاريخ العلاقات الكويتية العراقية يجد فيما لا يدع مجالا للشك أن أطماع العراق في ضم الكويت راسخة في وجدان وعقيدة أنظمة الحكم المتعاقبة في العراق.

ويتّضح ذلك جلياً من قيام النظام البعثي بزرع هذه الأفكار في عقول شعبه إلى أن أقدم صدام حسين على جريمته النكراء، وقام بغزو الكويت يوم 2 أغسطس 1990م.

كان العراق بين الحين والآخر يختلق المشكلات مع الكويت، وكان يثير موضوع الحدود بين الكويت والعراق، وتارة أخرى كان يقترح اقتراحات غير واقعية على الإطلاق، فيها تدخُّل سافر في شؤون الكويت الداخلية، واستمر هذا المسلسل في كل الحقب التاريخية التي مرَّتْ بها الكويت، التي كانت تحاول إقناع الجار الشقيق بشتى الوسائل بالمحافظة على قدسية الجوار والأخوة العربية، لكن العراق مع الأسف كان مستمراً في أطماعه الشريرة.

وأود هنا أن أستشهد بما جاء في كتاب العم جاسم حمد الصقر (يرحمه الله) كتاب جاسم حمد الصقر سيرته السياسية والثقافية 1981 2006م، د. فيصل عادل الوزان، مركز البحوث والدراسات الكويتية، الطبعة الأولى 2021م، الكويت.

«وكُلف جاسم حمد الصقر من قبل القيادة السياسية في الكويت ممثلة بالشيخ عبدالله السالم الصباح أمير الكويت والشيخ صباح الأحمد الصباح، وزير الخارجية آنذاك، في شهر مارس 1963م ليحمل 3 رسائل إلى رئيس جمهورية العراق ورئيس وزرائها ووزير خارجيتها، لاستكمال المفاوضات التي بدأت بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم، وقد تم توثيق مقابلات العم جاسم حمد الصقر مع الزعماء العراقيين عبدالسلام عارف وأحمد حسن البكر وصالح عماش، وما دار بينه وبينهم من أحاديث، وتكمن أهمية هذه الوثائق في أنها تكشف حلقة مفقودة من تاريخ المفاوضات الكويتية العراقية، حيث بينتها كواليس تلك المفاوضات. وتبيّن هذه الوثائق مدى إصرار العراقيين على إلحاق الكويت بها بأي شكل من الأشكال، حيث طالبوا بإقامة فدرالية. وأوضحت أيضاً عدم صحة ما قيل عن أن الشيخ عبدالله السالم كان يسعى نحو الفدرالية، بل تبيّن أنه يرفض ذلك. وكذلك أكدت هذه الوثائق القدرة الدبلوماسية الكويتية على تخطّي هذه العقبة العراقية الطامعة بضم الكويت».

صور من كتاب جاسم الصقر

كما نشر في كتاب العم جاسم حمد الصقر صورة من المقالة التي كتبها بجريدة القبس بتاريخ 22 يوليو 1995م شكري صالح زكي، وزير التجارة العراقي، بعنوان مواقف مبكرة لحزب البعث العراقي تجاه الكويت.

 أطماع العراق راسخة في وجدان أنظمة الحكم المتعاقبة فيه

العودة إلى الأردن

 كنت في ولاية فلوريدا بأميركا في إجازة مع العائلة، وقاربت الإجازة على الانتهاء في منتصف يوليو 1990م، وقد اتصل بي سعادة السفير الأخ محمد أبوالحسن (مندوب الكويت الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك)، وطلب إليّ العودة إلى مقر عملي في عمّان الأردن بناء على توجيهات معالي الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية آنذاك. وبالفعل سافرت إلى نيويورك، وهناك اجتمعت بالأخ محمد أبوالحسن في مكتبه، ثم ذهبنا لتناول طعام الغداء في المطعم الصيني القريب من مقر الوفد الدائم، وأخبرني عن مذكرة طارق عزيز وزير خارجية العراق التي قدّمها إلى الأمين العام للجامعة العربية في 15 يوليو 1990م. وقد اعتبرت هذه المذكرة بمنزلة إعلان حرب من العراق على الكويت، لما جاء فيها من اتهامات باطلة ضد الكويت. وذكر السفير أبوالحسن أن الشيخ صباح الأحمد طلب منّي العودة إلى مقر عملي بالأردن في أسرع وقت ممكن، وعندها غادرت إلى لندن، حيث تركت العائلة هناك، ومن ثم غادرت فوراً إلى الكويت، وقابلت الشيخ صباح والمسؤولين في الوزارة، وبعدها ذهبت إلى الأردن يوم 27 يوليو 1990م، وفي يوم السبت 28 يوليو 1990م، اتصل بنا السيد مضر بدران رئيس الوزراء الأردني، وقال: إنَّ الملك حسين سيقوم بزيارة إلى الكويت يوم الاثنين 30 يوليو 1990م، وبناء عليه أبلغت الكويت بموعد الزيارة، ومن ثم عدت بدوري إلى الكويت، وعند وصولي قمت بحجز غرفة في الشيراتون، ونمت هناك في أول ليلة، وذهبت إلى الاجتماع في اليوم التالي.

وكما أشرت سابقا، وصل الملك حسين قادماً من بغداد إلى الكويت في 30 يوليو، وعُقِد اجتماعُ مغلقُ بين سمو الشيخ جابر وسمو الشيخ سعد والملك حسين فقط لا غير في المطار، وظل الباقون ينتظرون في القاعة، وبعد الاجتماع والغداء رجع إلى بغداد. وطلب المسؤولون منّي الانتظار للمشاركة غداً الثلاثاء يوم 31 يوليو في الاجتماع بوزارة الخارجية، وفعلًا ألغيتُ السفر وحجزت يوم الخميس 2 أغسطس رحلة العودة إلى عمان. وكنت مدعواً يوم الثلاثاء على الغداء عند السيد مجرن الحمد في منزله مع الأخ خالد الجارالله والأخ فيصل الحجي والأخ أحمد الأيوب، وعندها جاءت مكالمة من وكالة الأنباء الكويتية لخالد الجارالله، وقد كان يشغل منصب مدير إدارة مجلس التعاون الخليجي آنذاك، تفيد بأن وكالة الأنباء الفرنسية قد نشرت خبراً عاجلًا بأن القوات العراقية تقف الآن في حالة استعداد هجومي على الحدود الكويتية. وهنا قام السيد خالد الجارالله باتصالات عاجلة مع المسؤولين، ومن ثم ودعنا السيد مجرن الحمد بعد أن انتهينا من الغداء.

وفي صباح يوم الأربعاء 1 أغسطس 1990م كان الاستعداد للذهاب إلى مؤتمر جدة برئاسة سمو الشيخ سعد العبدالله الصباح ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء للاجتماع مع الوفد العراقي برئاسة عزت الدوري نائب الرئيس العراقي، وفعلا عقد الاجتماع في جدة في ذلك اليوم، لكن عزت الدوري قطع الاجتماع بشكل مفاجئ وغادر جدة عائداً إلى بغداد، وبعدها عاد الوفد الكويتي برئاسة سمو الشيخ سعد العبدالله إلى الكويت دون التوصل إلى اتفاق مع الوفد العراقي.

بعض الأئمة والخطباء يوم الجمعة في الأردن كانوا يستخدمون ألفاظاً نابية لا تليق بقدسية المكان والمسجد

كيف ساعدني «جهاد» اللبناني؟

نزلنا، وكنت أنا أعرف مدير فندق الشيراتون، السيد فهد بوشعر، وتعرفُت على شخصٍ آخر هو السيد جهاد، وهو مسؤول في الفندق، وجاء للسلام، ودار حوار معه، وذكر أنه كان قادماً من السالمية، واليوم وصل إلى الفندق، فسألته: هل الطريق سالك؟ وأجاب: نعم. وهذا كان يوم الأحد عندما بدأ الجيش الشعبي العراقي بالانتشار في الكويت.

ومن الجدير بالذكر حادثة حدثت وأنا على البوفيه في الفندق، حيث كان هناك جندي عراقي بجانبي يحمل طبقا من الرز الأبيض ووضع عليه مرق بامية، ثم وضع حلو كريم كراميل فوق البامية وأخذ تفاحة بيده، وكان يريد أن يجلس على طاولتي، وليس من المعقول أن أجلس أنا معه وهو بهذه الوحشية، فتركت الطاولة وعندها سألت الأخ جهاد (لبناني الجنسية)، (ونعم الرجل) إذا كان بالإمكان أن أذهب معك وأغادر الفندق؟ فرّحب، واتفقت معه على ملاقاته في السرداب لنخرج بسيارته، فذهبت مسرعاً إلى غرفتي، وهنا أدركت لحظة الخطر من إبقاء جوازي الدبلوماسي معي، فقررتُ إخفاءه بالغرفة والتقيت بالأخ جهاد بالسرداب، وقررت الذهاب إلى منزل والدي (يرحمه الله) في منطقة السرة للاطمئنان عليه.

وفور مغادرتنا الفندق ونحن بجانب محلات أشرف وجدتُ الجيش الشعبي العراقي عند أول نقطة تفتيش فاستوقفنا الجندي، وقال: إلى أين؟ فقال الأخ جهاد له: سوف نذهب ونحضر لكم الأكل، ووضع الرشاش علينا مهدداً، وبعدها سمحوا لنا بالمرور، وخرجنا من المنطقة، وكان الأخ جهاد يسوق بسرعة يحاول أن يتخطى نقاط التفتيش عبر الشوارع الداخلية والابتعاد عن الشوارع الرئيسية ويعبر من شارع إلى شارع، حتى وصلنا إلى السرّة، وكان الوالد (الله يرحمه) مشغول البال، وكان لا بُد لي من العودة إلى عمّان، وكان الخروج من الكويت أمراً ضرورياً للالتحاق بعملي في عمّان، وقد كنت ملاحقاً من قبل القوات العراقية، حيث كانوا يفتشون عن عدد من المسؤولين الكويتيين. وقام الأخ اللبناني جهاد بإحضار جوازي الدبلوماسي وأوراقي وحقيبتي إلى منطقة السرة وأخفيتها هناك.

الملك حسين سخّر ذكاءه وعقليته لإبعاد خطر صدام عن الأردن

صحافيون لكنهم مخابرات

وبعد شهر تقريبا من بداية الغزو العراقي الغاشم للكويت في 2 أغسطس 1990م، زارني في منزلي صحافي فلسطيني (وهو من الذين يعملون في الكويت، وأنا أعرف أنه من ضمن المخابرات الأردنية)، ودار بيننا حديث عن الغزو العراقي الغاشم وعن الموقف الأردني السلبي، وحاول أن يظهر تعاطفه مع الكويت، وإذ به يسألني: هل قابلت الملك حسين؟ فقلت له: لا، فسألني: ما رأيك بمقابلته؟ فأجبت: بأنني أستطيع مقابلته في أي وقت دون انتظار مشورتك.

وكنت أعلم أن بيتي كله مُراقب، وهذا الكلام حدث بوجود الصحافي في منزلي بعد فترة المغرب ومن بعدها غادر، وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى السفارة، علماً بأن دوام السفارة يبدأ من الساعة الثامنة صباحاًَ إلى الساعة الثانية عشرة ليلًا، وأغلب سكن الموظفين في مبنى مجاور للسفارة إلا أنا، فمنزلي بعيد.

واجهتُ الملك بعد لقاء استمر 3 ساعات: موقفكم غير مقبول

المواجهة مع الملك

 

وفي أثناء فترة الغداء نحو الساعة الواحدة ظهراً وردني اتصال من الديوان الملكي، وأبلغوني أن جلالة الملك يريد مقابلتي الآن. وفعلًا توجهت إلى الديوان الملكي، واستقبلني رئيس الديوان الشريف زيد بن شاكر في مكتبه، وعندها دخل الملك حسين علينا، وهنا خرج الشريف زيد من مكتبه بعدما قبّل رأس الملك.

واستمر الاجتماع مع الملك حسين ما يقارب 3 ساعات، تحدث فيها الملك عن مواقفه وعلاقات الأردن السياسية والدبلوماسية مع دول مجلس التعاون الخليجي، ودور الأردن في محاولة حل المشاكل بين العراق والكويت.

وبعد ما انتهى الملك من حديثه استأذنته في الرد عليه، وقلت له متسائلًا: هل تعتبر أن موقف الأردن موقف مشرّف عند وقوفكم مع العراق ضد الكويت؟ وهذا الموقف يا جلالة الملك غير مقبول، وخصوصاً أن الكويت وقفت معكم في كل الظروف. وأعطيته مثالًا لذلك عن وجودي في حفلة الحزب الاشتراكي بعدن اليمن، واعتراضي على شخص سوداني وآخر فلسطيني، تحدّثا بالسوء عن دول الخليج وحكّامها وعن ملك الأردن، وقد انسحبت وأرسلتُ تقريراً إلى حكومتي بوزارة الخارجية، مما كاد يخلق أزمة بين الكويت واليمن، ومما اضطر اليمن إلى أن يعتذر رسمياً عن ذلك. وهنا أكدت للملك حسين أن الأردن تخلّى عن الكويت في أحلك الظروف. وطبعًا لم يقبل الملك حسين هذا الكلام، واستمر بالحديث مدافعاً عن الأردن وأنا أستمع إليه. ومن ناحية أخرى تحدث الملك عن لقائه بالرئيس المصري حسني مبارك في أول يوم الغزو عند ذهابه إلى الإسكندرية، محاولا إقناع الرئيس المصري بتأييد العراق، لكن الرئيس المصري رفض رفضاً وقاطعاً مبدأ الغزو، وأصرَّ على انسحاب العراق من الكويت انسحاباً كاملًا، وطلب بدوره اجتماعاً عاجلًا للجامعة العربية.

وأنا بالنسبة لي لم يقنعني كلام الملك حسين، ولا يمكن أن أقتنع بكلامه، وقناعتي أن الملك حسين سخّر ذكاءه وعقليته لإبعاد خطر صدام عن الأردن.

وأود توضيح مواقف الدول في اجتماعات القمة العربية، فكل الوفود كانت تؤيد كتابة فقرة الكويت في البيان الختامي، حيث يُذكَر الالتزام مع قرارات الشرعية الدولية ورفض الاحتلال والغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت إلا وفد الأردن فكان يقول: لا يوجد لديّ الصلاحيات.

مطالبة العراق بدولة فدرالية مع الكويت جوبهت بالرفض

ماذا قال مستشار الملك؟

وبالنسبة لزيارة الملك حسين إلى بغداد ثم الكويت في 30 يوليو1990م: هناك مقابلة في ديسمبر 2016م للمستشار السياسي للملك حسين عدنان أبوعودة في 4 حلقات في قناة العربية، وفي حلقة تخص الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت يقول عدنان أبوعودة:

«إن الملك حسين حاول أن يُثنيَ صدام حسين عن القيام بالهجوم وغزو الكويت، وهذا كلام عدنان أبوعودة، ومن يريد التأكد يشاهد التسجيل عبر حلقات قناة العربية، وقال صدام للملك حسين: حدود الكويت الدروازة، ولم يعرف الملك حسين المعنى من الدروازة، فأوضح له عدنان أبو عودة أن الدروازة هي بوابة السور في الكويت، وفي الطائرة عند نزولنا إلى الكويت يوم 30 يوليو أوضحت له أن الدروازة هي بوابات دولة الكويت القديمة، وهذا دليل قاطع على أن الملك حسين على اطّلاع بما كان ينوي صدام القيام به عند حضوره الاجتماع مع صاحب السمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح وصاحب السمو الشيخ سعد العبدالله الصباح (يرحمهما الله.)

وهنا سأل طاهر بركة مذيع برنامج الذاكرة السياسية في قناة العربية عدنان أبو عودة: هل بلغتم الكويت عن الغزو؟ فقال له: لا»!

 الرئيس مبارك رفض مبدأ الغزو تماماً وأصرَّ على انسحاب العراق من الكويت

محمد الصقر والوفد الشعبي

وفي أثناء الغزو زار الأردن الوفد الشعبي الكويتي برئاسة الأستاذ الفاضل أحمد زين السقاف والإخوة سعود العصيمي وأحمد الربعي ومحمد الصقر وعبدالباقي النوري ومبارك الدويلة ومحمد مساعد الصالح، وهذه مجموعة كويتية تضم أناساً متفهمين ومتعلمين، وقد اجتمعوا مع الملك حسين، وأنا كنت موجوداً معهم، فصار حديث بينهم وبين الملك حسين، حاول شرح اعتراضه على دخول القوات الأجنبية الأراضي العربية، لكونها أراضي مقدسة، مشيراً إلى السعودية.

وقد تم استقبال هذه المجموعة استقبالًا مصطنعاً، حيث جمعوا لهم مجموعة من الأردنيين والفلسطينيين، واستقبلوهم بالورود في المطار، وهذه كلها تمثيلية ومسرحية، ولكن رجال الوفد الكويتي متمرسون بالحياة، فلم تنطلِ عليهم هذه التمثيلية.

وهناك حادثة يجب أن تذكر، ففي أثناء الغزو زار الملك حسين الرئيس المصري حسني مبارك في الإسكندرية وقابله هناك، وبعد المقابلة وخلال عودتهم إلى القاهرة من الاسكندرية، كان السفير المصري مهاب مقبل مع عدنان أبوعودة في السيارة، وقد قال لي السيد مهاب مقبل: كنا نستمع إلى نشرة الأخبار في طريق عودتنا إلى القاهرة، وإذا بالمذيع يقول: «تمكن صاحب السمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح وصاحب السمو الشيخ سعد العبدالله الصباح من الخروج من الكويت ووصلوا إلى السعودية»، وعندها ضرب عدنان أبو عودة على فخذه وضرب كفيه وقال: فلتت الشرعية! وهذا نقلا عن السفير مهاب مقبل (وهو من الرجال المحترمين الصادقين، ومن خيرة الناس).

وقال أبو عودة في مقابلته على قناة العربية: في سنة 1958م بعد انقلاب عبدالكريم قاسم في العراق، وسقوط الملكية الهاشمية هناك، جمع الملك حسين مجموعة من كبار السياسيين واستشارهم بشأن الاستعانة بقوات أجنبية، ووافقوا، وطلب من الإنكليز قوات عسكرية، وبدورهم قام الإنكليز بتحويل هذا الطلب إلى الولايات المتحدة الأميركية التي أرسلت قوات إلى الأردن. وهنا نتساءل: هل يحق للأردن أن يستعين بقوات أجنبية ولا يحق للكويت طلب قوات أجنبية للدفاع عن أرضها ضد المحتل العراقي؟ هذا التناقض الواضح لا يحتاج إلى تفسير ولا يحتاج عناء في التفكير.

تفاصيل ما حصل في فندق الشيراتون يوم الغزو 2/8/1990

وفي لقاء مع جلالة الملك حسين بن طلال، حضره سفراء دول مجلس التعاون الخليجي في الديوان الملكي، ويأتي هذا اللقاء بعد لقائي الأول مع الملك، استقبلنا جلالة الملك في الديوان الملكي، وشارك في الاجتماع الشريف زيد بن شاكر بصفته رئيس الديوان الملكي، وعدنان أبوعودة بصفته المستشار السياسي لجلالة الملك، وكان هذا اللقاء تقريبًا في أواخر سبتمبر أو أوائل أكتوبر 1990م، واستهلَّ حديثه بالترحيب، وتحدث عن موضوع الغزو وموقف الأردن من هذا الغزو، وتكلّم بشكل واضح عن أن الرئيس حسني مبارك قد أخلّ بالاتفاق بينه وبين الملك حسين، لكنني لا أعرف شيئاً عن هذا الاتفاق، وأكمل الملك: كيف سيلاقيني الرئيس مبارك وبأي وجه سنلتقي؟ وهذا الكلام ذُكِرَ أمام السفراء وأمام الشريف زيد والسيد أبو عودة، ثم أكمل وشرح الموقف الأردني مردداً: أنتم لم تفهموا موقفنا، ونحن حاولنا جمع الأطراف ولمّ الشمل. ومن ثم بدأ يضع اللوم على بعض الجهات العربية، وفجأة توقّف عن الكلام. وهنا استأذن سعادة سفير المملكة العربية السعودية طالباً الحديث، فقال: خطباء المساجد يوم الجمعة يشنون حملاتٍ عنيفة على المملكة العربية السعودية بشكل عام، وعلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز (طيّب الله ثراه) بشكل خاص. وكان رد الملك حسين: إنني لا أسمع الخطب. ونظر إليَّ وأنا كنت جالساً على يمين الشريف زيد بن شاكر مقابل الملك، فأيدتُ كلام سعادة سفير السعودية، وأضفت أن بعض الأئمة والخطباء يوم الجمعة يستخدمون ألفاظًا نابية لا تليق بقدسية المكان والمسجد، وأعطيته مثالًا، فالمسجد الذي يصلّي فيه ولي العهد الأمير الحسن، وأنا أصلي فيه، وكنت جالساً مع الدكتور علي عتيقة بوجود وزير التجارة الأسبق وبعض الوزراء، خرج خطيب الجمعة فيه عن المألوف، وابتعد كل البعد عن لغة الأدب ولغة الدين وتكلّم كلاماً غير لائق عن دول الخليج والحكام، وهنا كرَّر الملك حسين أنه لم يسمع هذا الكلام.

صور من كتاب جاسم الصقر
صور من كتاب جاسم الصقر

وبعدها قال للسفراء: لقد قُمت بكتابة رسالة إلى الملك الحسن الثاني ملك المغرب، لنبلغه بما تم تداوله عن الغزو ومساعيه لحل الأزمة، وبإشارة من الملك ذهب عدنان أبو عودة وأحضر رسالة، وطلب إليه الملك قراءتها علينا، وبدأ يقرأ الرسالة بعبارات متقطعة وجمل غير مترابطة، فاستوقفه سعادة السفير السعودي محمد الفهد العيسى، وقال: يا صاحب الجلالة نحن لسنا في أبجديات العمل السياسي، كيف نتابع رسالة إلى ملك المغرب والجمل لا تكتمل والعبارات مقطوعة ومبتورة؟ فردّ أبوعودة بأن الطباعة غير واضحة، وقد كان ذلك عذراً غير مقبول. فانتقل فجأة عدنان أبوعودة إلى الحديث عن زيارة طارق عزيز والإخوة العراقيين إلى الكويت، مدّعياً إهانة الوفد العراقي من قبل المسؤولين في الكويت. وهنا استأذنتُ من جلالة الملك بالرد على السيد أبوعودة، وقلت: نحن لا نحتقر أحداً، ولا نتعامل بهذه الطريقة، بل نحترم ضيوف الكويت ونرحبُ بهم في الكويت. وهنا حدث نوع من الارتباك في الجلسة لردّي على هذه الادعاءات الباطلة، وهنا غيّر الملك الموضوع مرة أخرى، وأنهى الاجتماع.

وبعد انتهاء اللقاء، قررنا أن نلتقي في منزل سعادة السفير السعودي، وجلسنا لكتابة محضر واحد بالصياغة والكلام نفسه، حتى لا يختلف أحدٌ عن الآخر، وبعدها قام كل سفير بإرسال نسخة من هذا المحضر إلى بلده، واتفقنا على أن ندعو السفيرين المغربي والمصري لنستفهم عن حقيقة الأمر، وللمشاركة في اجتماعنا، وحضر السفير المغربي عبداللطيف العراقي والمصري مهاب مقبل، وعند استماعهم لما دار مع الملك حسين، نفى السفير المغربي نفياً قاطعاً أن يكون قد تسلَّم رسالة من الأردن لتوصيلها إلى الملك الحسن الثاني، ولم يسمع بأن هناك رسالة أرسلت عن طريق سفير الأردن في المغرب أو مبعوث أردني. والسفير المصري أكد الكلام نفسه، ونفى نفياً قاطعاً بعد أن تكلّم مع الرئيس حسني مبارك بصراحة، ولم يكن هناك كلام سرّي أو وعود من الأطراف والرؤساء الآخرين، ولا يعرف شيئاً عن هذا الاتفاق الذي ذُكر سابقاً. وأنا بلغت القيادة بكل ما دار في هذه الاجتماعات، وتبين للكويت أن الموقف الأردني قد انكشف على حقيقته.

 

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.