أفرغ الدبلوماسي الكويتي السيد سليمان الفصام خلاصة تجاربه الدبلوماسية التي امتدت نحو 40 عاماً في كتاب صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات الكويتية تحت عنوان «40 عاماً… رحلة مع قافلة الدبلوماسية». ويعتبر الفصام أن العمل الدبلوماسي مهم ومفيد، لكنه شاق ويحتاج إلى الجد والمثابرة وتحليل عميق وفهم لمعني الحياة الدبلوماسية. وبقدر ما فيها من منافع وفوائد فإنها لا تخلو من المعاناة والمصاعب وأهمها مسألة تعليم الأولاد خلال التنقل من دولة إلى أخرى والترحال من بلد إلى آخر وكذلك الغربة والابتعاد عن الوطن فترة زمنية طويلة قد تكون سبباً في انقطاع الصلات الوثيقة بين الدبلوماسي وأصدقائه في الكويت. ويشير، في كتابه، إلى مفهوم غير صحيح لدى البعض عن الدبلوماسية حيث يسود اعتقاد بأنها نوع من الجاسوسية، وهي في حقيقة الأمر عمل مميز لتقوية العلاقات وتبادل المنافع وبناء الجسور بين الكويت والدول الأخرى، وهذا هو المفهوم الصحيح للدبلوماسية. وحرص السفير الفصام على إيراد أمثلة لكيفية بناء العلاقات وحلها وإدارة الأزمات وإعادة تطبيع العلاقات، مسلطاً الضوء على دور الكويت في الوساطة بين دولة وأخرى وكونها طرفاً فاعلاً ضمن عمل سياسي جماعي.

أحداث ملتهبة في عدن

بعد صدور مرسوم أميري عام 1986 بتعييني سفيرا لدولة الكويت لدى جمهورية اليمن الشعبية (عدن)، تزامن ذلك مع أحداث ملتهبة، ففي يناير 1986م اشتعلت الحرب بين جناحَي الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم، فقد حاول الرئيس علي ناصر محمد (الذي كان يمسك بيده زمام الحكم) التخلص من أعدائه بالحزب، الذين يعرقلون ويعارضون توجهاته نحو الانفتاح مع العالم الحر. 

وكان الرئيس علي ناصر يجمع بين السلطات الثلاث (منصب الأمين العام، ورئيس هيئة مجلس الرئاسة، ورئيس مجلس الوزراء)، كانت كل هذه المناصب بيده، وكان هو الآمر الناهي في اليمن الجنوبي، وكانت الخلافات بين أعضاء الحزب مستمرة إلى أن وصلت لذروتها، فأراد أن يبيدهم قبل أن ينقلبوا عليه (كالمَثل القائل: أراد أن يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به)، فدخل أعوانه إلى قاعة الاجتماع وأطلقوا الرصاص على الحاضرين، وقُتل معظمهم، ومن بعدها هرب علي ناصر إلى اليمن الشمالي، ثم إلى إثيوبيا، ولكن المعارك اشتعلت بين الطرفين، بين أنصار جماعة علي ناصر وأنصار جماعة علي سالم البيض، وقد كلفت هذه المعارك عدن ما يزيد على 20 ألف قتيل من كلا الطرفين، واستمر التوتر في اليمن الجنوبي، وخصوصا في عدن، بضعة أشهر، الأمر الذي أدى إلى تأخُّر سفري إلى عدن حتى شهر يونيو 1986م.

الجانب اليمني وضع شروطاً تعجيزية لصيانة مصفاة عدن… وبعد المفاوضات ألغيت المساعدة

لم أصل إلى اليمن إلا بعد أن شُكلت سلطة جديدة في عدن، وتم الفصل بين المناصب الثلاثة، وعُيّن 3 أشخاص لتلك لمناصب، على غرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي، حيث تولى علي سالم البيض منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، وتولى المهندس حيدر أبوبكر العطاس منصب رئيس هيئة الرئاسة، وتولى السيد محمد سعيد نعمان منصب رئيس الوزراء. وتشكلت حكومة جديدة للحزب، وبدأت الأحوال تستقر في اليمن الجنوبي تدريجيا، (ولم تكن هناك صلاحيات فعلية في هذه المناصب، إلا بأوامر عليا من السوفيات).

وبعد وصولي إلى اليمن قدمت نسخة من أوراق اعتمادي إلى د. عبدالعزيز الدالي وزير الخارجية، وبعدها قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس حيدر العطاس، رئيس مجلس هيئة الرئاسة، بحسب نظامهم هناك.

وفي البداية، كنت متحمساً لليمن الجنوبي، بالرغم من كونها صعبة المعيشة، ولم يكن عندي اعتراض أو تذمُّر كسفير، على الرغم من أن دولة اليمن الجنوبي لها مشاكلها، وتوجهت إلى هناك وأنا مُطّلع ومتابع للأحداث السياسية، وفي أثناء إلقائي للكلمة أمام الرئيس العطاس قلت: «إن شعب اليمن العظيم الذي ضرب أروع الأمثلة في الكفاح والنضال من أجل الحرية والكرامة والاستقلال جدير بأن يأخذ مكانه الطليعي بين شعوب الأمم المتقدمة».

معظم قياديي الحزب الاشتراكي الحاكم باليمن الجنوبي كانوا من حاملي الشهادات الابتدائية!

هذه العبارة كان لها ردّة فعل إيجابية في لحظتها عند الرئيس العطاس وعند د. عبدالعزيز الدالي، الذي يقف بجانبه وأعضاء مجلس الرئاسة، وفتحت بابا للتعاون والتفاهم بيني وبين هذه المجموعة.

صيانة مصفاة عدن

وفي أول اللقاءات بيني وبين المسؤولين اليمنيين، تم تقديم طلباتهم الاقتصادية، وكان أول طلب من الكويت أن تعمل على صيانة مصفاة عدن، وكانت المصفاة قديمة جدًا، وتُعَدّ الصيانة مكلفة جداً، فاقترحت الكويت بناء واحدة جديدة لهم، لأنها أفضل اقتصاديا من حيث التكلفة. وأذكر هذه الحادثة، حيث كانت اليمن تتعامل مع الكويت من خلال مجموعة البترول المستقلة IPG وبعض مُلّاكها هم السيد وليد حديد، والسيد علي الرضوان، والسيد عبدالله عقيل، والسيد عبدالله النيباري، والسيد خلف الخلف، وقد نقلت طلب الصيانة إلى المسؤولين في الكويت. وكانت هناك رغبة من الرئيس العطاس في زيارة الكويت، وقد رحبت الكويت بذلك.

وفي أثناء الاجتماع الرسمي بين الوفدين في الكويت، تم طرح موضوع صيانة المصفاة، وكان السيد فضل محسن عضو المكتب السياسي المسؤول عن الشؤون الاقتصادية في اليمن هو المتحدث نيابة عن الجانب اليمني، وهو رافع راية المطالبات والشروط، ومن الجانب الكويتي حضر الشيخ علي الخليفة الصباح (وزير النفط آنذاك)، ودار الحديث بينهما، وعندها رفض الشيخ علي الخليفة دفع ثلاثمئة مليون دولار للصيانة، خصوصاً مع انخفاض أسعار البترول في تلك الفترة، إذ لا يمكن ترتيب التمويل المناسب، وبدأت الكويت باستعراض البدائل، لكنها رُفضت، وخرج السيد فضل محسن بعد انتهاء الاجتماع غاضباً، وقد اتّسم طبعه بالعناد والعصبية، وتمسّك برأيه حول صيانة المصفاة.

الفصام انسحب من احتفال تخلخله كلام سوداني بذيء بحق حكام «مجلس التعاون»

وتم ترتيب اجتماع مع ممثلي صندوق الكويت للتنمية، وتعامل الجانب الكويتي مع الجانب اليمني بودّ، وتم الترحيب بالوفد اليمني، والاتفاق على استكمال مشاريع جديدة في اليمن، وقامت الكويت ببناء خمسة مستشفيات، كما وجّه صاحب السمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح (طيّب الله ثراه) الأوامر لبناء مشاريع سكنية في عدن سابقاً كلفت أربعة عشر مليون دينار كويتي، وكانت عبارة عن بناء متكامل من أروع ما يمكن، وتولَّت الشركة الكويتية البناء بأفضل طريقة ممكنة في ذلك الوقت. وقام صندوق الكويت للتنمية مع هيئة الخليج والجنوب بدور فاعل مستمر، وكان لها مكتب في عدن وممثل باليمن.

صورة لينين والنجمة الحمراء

وفي هذه الفترة التي كنت فيها هناك كثرت المشاكل الداخلية، فكانت مشاكل الجنوب مع الشمال مستمرة، ومن أسباب المشاكل الداخلية انعدام الثقة فيما بين الأطراف المختلفة، واتسمت جميع الانقلابات بالدموية، حرقوا فيها المكتبات والمساجد، كما حرقوا الوثائق المهمة، وكانت الاشتراكية في الحقيقة ممثلة ببعض الأشخاص الجهلاء، ولا يوجد غير حيدر العطاس الذي كان مهندسا، ود. عبدالعزيز الدالي، وأعتقد أنه كان هناك دكتور آخر تخرّج في القاهرة، أما بقية الحزب فلم يكونوا حاملي شهادات حتى الابتدائية، وهم غير مؤهلين لإدارة الدولة، وكانوا خاضعين للاتحاد السوفياتي، تلاحظ ذلك عند دخولك لمكاتبهم، فتجد صورة لينين والنجمة الحمراء معلّقة في كل مكان. ويُعَدُّ الاتحاد السوفياتي عندهم شيئاً مقدساً، ويتخطى السفير السوفياتي كل البروتوكولات هناك، ويتقدم على عميد السلك الدبلوماسي، وهو السفير الإيطالي، لكن السفير الإيطالي شرس، ولا يقبل بذلك.

الحضور الفلسطيني والاعتذار

ولاحظت في أثناء الحفلات وقوف السفراء والحضور من دون أي ترتيب، ولا يوجد أي اعتبار للأقدمية بين السفراء. وقد أعطت القيادة اليمنية دعاية إعلامية للقضية الفلسطينية في حفلاتهم، وخصوصاً في أثناء زيارات ياسر عرفات لليمن. لكن في واقع الأمر تم وضع جميع القوات الفلسطينية التي انسحبت من لبنان في معسكر محاط بسياج يقع خارج عدن في الصحراء، حيث العقارب والثعابين والحيوانات البرية، ويمنع منعاً باتاً خروجهم من هذا المعسكر، ولا يسمح بدخولهم إلى عدن، ويقتصر نشاطهم داخل المعسكر، فهو أشبه بالسجن، ولكنه يقع في البر.

وفي يوم من الأيام وردني اتصال من مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية (التي تمثل سفارة فلسطين في عدن) ليخبرني بأن الرئيس عرفات سيقوم بزيارة إلى عدن، والمطلوب من السفراء العرب وجودهم بالمطار الساعة 12 ليلًا لاستقباله بحسب البروتوكولات، فاتصلت بالسفير السعودي، لكنه اعتذر عن عدم الحضور، بسبب عدم تقيُّد الفلسطينيين بمواعيد الوصول، ثم اتصلت بالسفير الجزائري للتنسيق معه، فقال لي: إن مواعيدهم غير دقيقة، ولكنه سيضطر للمشاركة والحضور، وهنا قررت الذهاب إلى المطار حسب الموعد المطلوب مع السفير الجزائري، وتأكد لي فيما بعد أن الفلسطينيين لا يصدقون القول، حيث تغيّر موعد الوصول، وكان عذرهم أن التغيير تم لدواعٍ أمنية، وقد وصلت الطائرة العراقية التي تُقلّ عرفات في ذلك اليوم الساعة الثالثة فجرًا بدلا من 12 ليلا، أي بعد 3 ساعات تقريباً من انتظارنا في المطار، وقد تكررت هذه الحادثة مرات ومرات، ولكننا نحن السفراء رفضنا الخروج للاستقبال إذا كانت المواعيد غير محددة.

اليمنيون كانوا لا يثقون ببعضهم ويرون أن كل الدول والسفارات عملاء وجواسيس

وكان اللقاء الرسمي بين السفراء العرب وعرفات يتم في مقر إقامته باليوم التالي من وصوله إلى اليمن، حيث يكرر حديثه في كل مرة مُلقياً علينا محاضرة تستغرق نحو ثلاث ساعات دون انقطاع مُردِداً كلاماً مكرراً ومزعجاً ومملًا.

وأذكر حادثة أخرى، حيث قام زعيم الجبهة الديموقراطية السيد نايف حواتمة بزيارة إلى عدن في اليمن الجنوبي وفي أثناء وجوده في عدن طلب الاجتماع مع السفراء العرب في مقر إقامته، وفعلًا شارك جميع السفراء العرب بعدن في ذلك اللقاء الذي استمر 3 ساعات، تحدث خلالها السيد حواتمة عن بطولات وهمية، مهاجماً بعض القادة العرب وبعض الزعامات الفلسطينية الأخرى، وكان حديثاً مملًا لا يستحق هذا الوقت.

وفي اليوم التالي لهذا اللقاء، اتصل مدير مكتب الجبهة الديموقراطية، وأبلغني بأن الرفيق حواتمة يريد مقابلتي شخصياً في مقر إقامته، فاستغربت بدوري من هذا الطلب، وطلبت إليه التفضل إلى منزلي أو إلى السفارة، فحضر الاثنان حواتمة ومدير مكتبه، وفي بداية الحديث معي اعتذر عن كلامه أمس الذي لم يمضِ أربع وعشرون ساعة على ذكره، خصوصاً حديثه السَّلْبي عن الزعماء العرب، وأبدى رغبة في زيارة الكويت، وطبعًا لا أملك قرار القبول أو الرفض، وقمت بإرسال طلبه هذا إلى المسؤولين في الكويت، وجاء الرد بالاعتذار.

وبعد مرور عدة أيام حضرت احتفالا وُجدَ فيه ياسر عبدربه، (وهو فلسطيني الجنسية، محسوب من جماعة حواتمة، ثم انشق عن الجبهة الديموقراطية والتحق مع جماعة عرفات)، كما حضر السودانيون على المسرح، حيث تمت دعوة جميع السفراء للحضور، وعندها وقف شخص سوداني تحدث بكلام بذيء عن دول مجلس التعاون الخليجي والحكام والملوك والأمراء العرب، وقد كنت جالسا في الصف الأمامي، رفعت يدي لتوقيفه عن الكلام، معترضاً على هذا الحديث، وكان أفراد القيادة اليمنية جميعهم (علي سالم البيض، حيدر العطاس، عبدالعزيز الدالي، فضل محسن) حاضرين، ولم يتخذ أحد منهم أي إجراء لنهيه عن هذا الحديث، وهنا انسحبت من الاحتفال وعُدت إلى السفارة، وتواصلت مع الوزارة والمسؤولين، وشرحت لهم ما حدث، ومن ثم كتبت برقية مفصلة، وفي أثناء إرسال البرقية، كلمني الرئيس العطاس ليعتذر ويطلب عدم تبليغ الكويت بما حدث، وكذلك وردني اتصال من رئيس الوزراء اليمني محمد سعيد نعمان، ليطلب إليّ عدم تبليغ الكويت بما جرى، وبعدها وردني اتصال من د. الدالي يقول: «رجاء أبو طلال لا تبلغ الكويت»، ولكنني كنت حينها قد بلّغت الكويت بما جرى، وحاولوا الاعتذار مرات عديدة، ولكن كانت عندي تعليمات واضحة من الكويت بألّا نقبل أيّ تطاول أو إساءة على أي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، لأن ذلك يُعَدّ أمراً مرفوضاً وغير مقبول. وتكررت محاولات الاعتذار، حيث تحدد لي موعد في اليوم التالي مع  وزير الخارجية د. الدالي  في مكتبه ليعتذر، وهنا أوضحت له أنني لا أقبل أي نوع من التجاوز أو التطاول على دول الخليج العربي والأشقاء العرب، وأنه لا دخل لنا بالخلافات الداخلية اليمنية أو الخلافات اليمنية مع الدول الأخرى، حيث إننا نحن دول الخليج لسنا مسؤولين عن الشأن الداخلي اليمني. وقد اعترضت بشدة على تصرُّف القيادات اليمنية لسماحهم للمجموعات السودانية ومجموعة منظمة التحرير الفلسطينية ومجموعة الجبهة الديموقراطية الفلسطينية باستخدام المسارح اليمنية لتكون منبراً لشتم دول الخليج والحكام والملوك العرب، ومن جهة ثانية يطلب اليمن المعونات المادية من دول الخليج العربي، وهذا أمر غير مقبول أبدًا ومتناقض للغاية.

وهنا بدأت باتخاذ الحيطة والحزم في التعامل مع القيادة اليمنية، فاليمنيون يقومون بتوجيه الدعوة إلى بعض الأشخاص من الكويت، وكان السيد سامي المنيس (يرحمه الله) من ضمن المدعوين، وأتذكر حضوره في هذا الاحتفال، وكانت تتم دعوتهم وحضورهم للمشاركة في عيد العمال واحتفالات القيادة اليمنية الرسمية، ويتم استقبال المسؤولين الكويتيين بحفاوة في المطار، مع حضور إعلامي مكثّف لعمل المقابلات التلفزيونية، ولكنني لاحظت أن اليمن بشكل عام كانت تُدار بعقلية أناس ليس لديهم التزام لأحد، ولا يثقون بعضهم البعض، ويعتقدون أن جميع الدول والسفارات عملاء وجواسيس إلّا هم، فهم الوطنيون!

وساطة الكويت بين الشمال والجنوب

وأود أن أوضح أن التعامل الرسمي بيني، بوصفي سفيراً لدولة الكويت، وبين القيادة اليمنية كان تعاملًا صعباً، وعلى السفير أن يكون على قدر من الوعي والحكمة والذكاء ليعرف كيفية التعامل مع هذه القيادة، وخصوصاً إذا كانت صفة التعامل بلا مصداقية، والدليل على ذلك حادثة الخلاف بين اليمن الجنوبي والشمالي، حيث إن بعض الذين كانوا مع جماعة علي ناصر قد هربوا إلى الشمال، وشعر الجنوب بأن الشمال يميل إلى جماعة علي ناصر نسبيًا، وأن الأمن في الجنوب مستتب بالقوة.

وفي أثناء التوتر بين الطرفين الشمالي والجنوبي، كلمني وزير الخارجية د. الدالي وفضل محسن عضو المكتب السياسي اليمني والمسؤول عن الشؤون الاقتصادية، حيث أرادوا وساطة دولة الكويت لحلّ جميع المشاكل بين الطرفين في اليمن، وكنت في وقتها قد طلبت موعداً مع الأمين العام علي سالم البيض، وفي ذلك الوقت كان الأمين العام لا يقابل إلا سفراء الدول الحزبية، والكويت ليست دولة حزبية، وكان هذا الكلام غير مقبول بالنسبة لي، فالكويت دولة عربية واليمن دولة عربية، وتربطنا باليمن وشائج الأخوّة وصلات القربى، وتتميز العلاقات بين الكويت واليمن بروابط عميقة وقديمة، وعندها تكلمت مع د. الدالي الذي يتميز بشخصيته الطيبة، لكنه لا يستطيع التدخل في مثل هذه الأمور السياسية. وبعدها تحدثت مع فضل محسن ووجهت له الكلام قائلا: أنتم كقيادة يمنية تريدون من الكويت المساعدة، وأنا أطلب مقابلة الأمين العام، لكن هناك مماطلة في تحديد هذا الموعد من جانبكم. وهنا تدخّل فضل محسن لتحديد الموعد. وبعد يومين تقريبا اتصلوا من وزارة الخارجية اليمنية ليبلغوني أن الموعد مع الأمين العام هو يوم غدٍ، وأن مدة المقابلة 10 دقائق، وذهبت بحسب الموعد، وعند دخولي سلَّمتُ عليه «السلام عليكم» وردّ السلام، وجلسنا، وبدأ الحديث، ورحّب بي ترحيباً حاراً، وذكرت أنني طلبت اللقاء سابقاً من خلال إدارة التشريفات وإدارة المراسم، ولم يتم تحديد موعد، فاستغرب الأمين العام، وقال هذا الشيء غير صحيح، واستمر الحديث لمدة ساعة بدل 10 دقائق، إلى أن دخل مدير المكتب موضحاً بوجود زوار لديه، ولكنه طلب موعداً جديداً لاستكمال الحديث، وبالفعل ذهبت لاجتماع آخر، وكان حريصاً على مناقشة المواضيع المطروحة، وذكرت «أن جميع مواقف اليمن والمواضيع مربوطة بالاتحاد السوفياتي، وأنتم مقيدون، بمعنى أنكم لا تملكون حرية اتخاذ القرار»، وعندها أكد الأمين العام أنهم أحرار، وأن اليمن الجنوبي يريد وساطة الكويت مع اليمن الشمالي.

وهنا نقلت هذه الرغبة إلى معالي الشيخ صباح الأحمد الصباح، وزير الخارجية آنذاك، وجاء الرد بالموافقة. في تلك الفترة كنت أعتزم الذهاب إلى الكويت لحضور الاجتماع السنوي للسفراء الكويتيين في الكويت، وبعد الانتهاء من اجتماع السفراء عُقدتْ اجتماعات للبدء بمهمة الوساطة في اليمن، وعندها تم تكليف السيد سعود العصيمي وزير الدولة للشؤون الخارجية بهذه المهمة، وذهبنا معاً إلى صنعاء، وقابلنا الرئيس علي عبدالله صالح، ومن بعدها غادرنا إلى عدن، وقابلنا المسؤولين بعدن، في محاولة للمّ الشمل والتوفيق بين الطرفين. واستمر دور الوساطة عن طريق المراسلات بينهم وبين الكويت بعد ذلك.

وفي يوم من الأيام صادفت السفير الكوبي في حفلة أقيمت لدى إحدى السفارات في عدن، وذكر أن الحكومة اليمنية في عدن طلبت إلى السفير الكوبي القيام بدور الوساطة بصفة رسمية بينهم وبين اليمن الشمالي، وفي وقتها استغربت هذا التصرف، حيث إننا (الكويت) نحن من يقوم بتلك المهمة، ولم يتم تبليغنا رسمياً بذلك، وتحريت عن هذا الخبر من مصادري الخاصة، وتأكدت أن اليمن قد تواصلوا فعلا مع الكوبيين، وعندها أبلغت الكويت بذلك، فاستدعت الكويت السفير اليمني الجنوبي هناك، ودار حديث معه، ونتيجة لذلك تركت الموضوع. 

وهذه الحادثة دليل على عدم مصداقيتهم، وذلك لوجود شكوك أغلب ما تكون صبيانية ومبنية على الجهل. الأمر الذي يؤكد أن القيادة اليمنية فاقدة الإرادة، وأن جميع القرارات مرهونة بموافقة سفارة الاتحاد السوفياتي في عدن.

وبالرغم من كل هذه التحركات السلبية من الجانب اليمني، فإن الكويت واصلت القيام بواجبها الإنساني تجاه الشعب اليمني، فقامت ببناء خمسة مستشفيات في عدن، منها ثلاث تلفت من الرطوبة، بسبب إهمال الحكومة اليمنية وعدم اهتمام المسؤولين بهذه المبادرات، بالرغم من جدية الكويت والتزامها باستكمال جميع المشاريع والمساعدات الإنسانية التي أقامها صندوق الكويت للتنمية في اليمن.

كما عززنا العلاقات بين الطرفين من خلال تشغيل الخطوط الجوية الكويتية بمعدل رحلة واحدة أسبوعياً، تغادر الكويت يوم الخميس مساء وتصل إلى عدن فجر الجمعة، وتعود صباح يوم الجمعة إلى الكويت.

إن سياسة اليمن الجنوبي الخارجية وعلاقاتهم الدولية كانت خاضعة للإرادة السوفياتية التي تتحكم بها كيفما تشاء، والأدلة على ذلك كثيرة وواضحة، فلا يمكن لحكومة عدن أن تتصل بدولة أجنبية أو تتخذ قراراً بهذا الاتجاه إلّا بموافقة السلطات السوفياتية المعنية. ونتيجة لذلك، كانت علاقات اليمن مع كثير من الدول، وخاصة مع دول الجوار، يشوبها الشك وعدم اليقين. وأذكر خلاف اليمن مع عُمان بشأن الحدود، لكن مساعي الكويت الحميدة لحل هذا الخلاف قد كُللت بالنجاح، وبدا ذلك واضحا عندما تم تبادل السفراء بين اليمن وسلطنة عمان. وقد وصل سفير سلطنة عمان لدى اليمن الجنوبي إلى عدن، واتصل بنا ورحبنا به، وتم ترتيب سيارة وسائق له، وطلب استخدام أحد مكاتب سفارة دولة الكويت بصفة مؤقتة لحين استئجار مقر للسفارة العمانية في عدن، وبعد تقديمه لأوراق اعتماده، أقمت له دعوة عشاء في منزلي حضرها مجموعة من السفراء العرب والأجانب واليمنيين، وكان السفير العماني رجلا محترماً ومتفهماً، وبعد انتقاله إلى مقره الجديد الدائم ثمّن جهود الكويت وتعاوننا معه.

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.