أفرغ الدبلوماسي الكويتي السيد سليمان الفصام خلاصة تجاربه الدبلوماسية التي امتدت نحو 40 عاماً في كتاب صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات الكويتية تحت عنوان «40 عاماً… رحلة مع قافلة الدبلوماسية». ويعتبر الفصام أن العمل الدبلوماسي مهم ومفيد، لكنه شاق ويحتاج إلى الجد والمثابرة وإلى تحليل عميق وفهم لمعنى الحياة الدبلوماسية، فبقدر ما فيها من منافع وفوائد فإنها لا تخلو من المعاناة والمصاعب، وأهمها مسألة تعليم الأولاد خلال التنقل من دولة إلى أخرى، والترحال من بلد إلى آخر، وكذلك الغربة والابتعاد عن الوطن فترة زمنية طويلة قد تكون سبباً في انقطاع الصلات الوثيقة بين الدبلوماسي وأصدقائه في الكويت. ويشير الفصام، في كتابه الذي تنشر «» لمحات منه على حلقات، إلى مفهوم غير صحيح لدى البعض عن الدبلوماسية، حيث يسود اعتقاد بأنها نوع من الجاسوسية، وهي في حقيقة الأمر عمل مميز لتقوية العلاقات وتبادل المنافع وبناء الجسور بين الكويت والدول الأخرى، وهذا هو المفهوم الصحيح للدبلوماسية. وحرص السفير الفصام على إيراد أمثلة لكيفية بناء العلاقات وحلّها وإدارة الأزمات وإعادة تطبيع العلاقات، مسلطاً الضوء على دور الكويت في الوساطة بين دولة وأخرى، وكونها طرفاً فاعلاً ضمن عمل سياسي جماعي، وإلى تفاصيل الحلقة الرابعة.
حرب أكتوبر 1973م
كانت بداية حرب أكتوبر مفاجأة لنا في واشنطن وللمجتمع الدولي، فلم يكن أحد يتوقع بدء الحرب في ذلك اليوم، فقد كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات (رحمه الله) قد أعلن الحرب تقريباً خمس مرات بالسابق، ولم يهجم على إسرائيل في أي منها.
كان يوم السبت 6 أكتوبر هو يوم كيبور اليهودي المقدس، وكنت مع المرحومة أم طلال خارجين للتسوق في ذلك اليوم، وقد أغلقت أغلب المتاجر اليهودية للعطلة اليهودية، فذهبنا إلى الأسواق الأميركية المسيحية التي تفتح أيام السبت. وعند ركوبنا السيارة فتحت المذياع وإذا بالمعلق يقول إن الحرب بدأت، وهي حرب شاملة على الجبهة المصرية الإسرائيلية في سيناء والجيش العربي السوري من جهة أخرى في الجولان.
إن الأمر الذي يجب أن نتعلمه من هذه الحرب أن الاستعداد اللازم لمعركة شاملة مثل حرب أكتوبر شيء مهم جداً، ويجب أن يكون على جميع الصعد العسكرية والمدنية والدبلوماسية والاستخباراتية وبسريّة تامة ومطلقة، فقد كان التخطيط المصري يدل على كفاءة القيادة العسكرية المصرية وعلى القائمين على تنظيم القوات المسلحة المصرية التي أبهرت العالم بتحطيم أسطورة خط بارليف ودحر الإسرائيليين من سيناء.
أما قيام الولايات المتحدة بدعم إسرائيل في أثناء القتال، فقد كان مخالفة صريحة للأعراف الدولية والسياسية، وتدخلا مباشرا واضحا من أميركا في موازين الحرب بين مصر وإسرائيل. إن هذه الحرب في مجملها غيرت موازين القوى، وأكدت أن الجيش المصري جيش محارب من الدرجة الأولى، وكانت حرب 6 أكتوبر بداية انطلاقة محادثات السلام بين مصر وإسرائيل التي بموجبها تم استعادة سيناء بكاملها، وعادت الأرض إلى أهلها وتم توقيع معاهدة السلام.
للشيخ عبدالله السالم وقفة أخوية ودور كبير في نهضة إمارة دبي
من واشنطن إلى دبي
بعد قضاء 7 سنوات في واشنطن غادرت الولايات المتحدة الأميركية والتحقت بعملي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي، في سبتمبر 1974م، وتم تعييني أول قنصل عام في دبي والإمارات الشمالية (الشارقة، عجمان، أم القيوين، رأس الخيمة، الفجيرة على الساحل الشرقي)، حيث قمت بافتتاح القنصلية العامة في دبي، وكانت دبي هي المحطة الثالثة في رحلتي الدبلوماسية.
تسلَّمْتُ رئاسة أول بعثة قنصلية في دبي، وبدأت العمل الجاد الذي وضعت فيه كل خبرتي وتجربتي وتعليمي من واشنطن، التي أهّلتني لأن أتولى رئاسة بعثة، وأن أخلق جو تعاون وعمل بين القنصلية في دبي وبين السفارة في أبوظبي، حيث كان الأخ العزيز والصديق الوفي سعادة السفير سليمان ماجد الشاهين هو سفير دولة الكويت لدى الإمارات العربية المتحدة في أبوظبي آنذاك.
إمارة تنهض
كانت زيارتي الأولى هذه لدبي في سبتمبر 1974م، وقد تولى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (رحمه الله) الحكم بعد وفاة والده الشيخ سعيد آل مكتوم (رحمه الله.) وقد بدأ عصر النهضة منذ أن تولى الشيخ راشد بن سعيد (رحمه الله) سدة الحكم.
ودبي مدينة ساحلية جوها رطب، وكانت في ذلك الوقت في بدايتها، حيث يوجد شارع واحد بين الخور والبنايات، ولم يكن هناك فنادق كثيرة في المدينة.
كان هناك فندق واحد هو فندق كارلتون، وهو عمارة سكنية استأجرها رجل الأعمال الكويتي السيد عبد العزيز المساعيد من التاجر الكويتي المعروف السيد مرشد العصيمي، الذي كان مقيماً في دبي، واستخدمها كفندق كارلتون. كما كانت هناك فنادق صغيرة في منطقة السوق. وقد بنى التاجر الكويتي المعروف السيد مبارك الحساوي فندق كارلتون في إمارة الشارقة واستأجره السيد عبدالعزيز المساعيد أيضاً.
وفي أثناء وجودي في دبي لاحظت أن فندق إنتركونتيننتال كان تحت التشييد، وقد انتهى بنيانه سريعاً في ذلك الوقت. كما تم بناء فندق الشيراتون عام 1976م.
وهنا لاحظت بداية النهضة في إمارة دبي، فقد تم تشييد فندق حياة على البحر لصاحبه عبدالوهاب كالاداري أحد تجار دبي. كذلك تم افتتاح نفق الشندقة من تحت خور دبي، وهو الذي يربط ديرة من جانب وبر دبي من الجانب الآخر. وكان عملاً هندسياً رائعاً، حيث كان العبور بين البرين بالقوارب فقط. كذلك تم بناء جسر آل مكتوم، الذي يربط بر دبي من جهة ومنطقة ديرة (داخل دبي)، وهو جسر متحرك يسمح بمرور البواخر في أوقات معيّنة من تحت الجسر. وبعد فترة وجيزة تم بناء جسر آخر على خور دبي. وبعد بناء هذا الجسر اكتملت وسائل الاتصال بين الجانبين، وساعد ذلك على انسيابية حركة المرور بسهولة ويسر.
دبي اقترضت المال من الكويت لتطوير وإصلاح الخور والميناء والجمارك
وعند وصولي إلى دبي كانت إقامتي في فندق كارلتون لمدة شهر، فلم يكن هناك سكن متوافر أو مبانٍ خاصة لسكن الدبلوماسيين آنذاك، والمباني كانت في طورها الأول. وبعدها استطعت الحصول على بيت متواضع عن طريق شخص بنى 6 بيوت خلف المستشفى الإيراني في بر دبي عند الجميرا وسكنت فيه فترة قصيرة، ثم انتقلنا أنا وأسرتي إلى منزل أفضل وأحسن وأكبر قريب من قصر الضيافة في الجميرا. وبعدها قررت حكومة الكويت شراء بيت جديد مؤثث بالكامل
عندما رآه السيد عبدالرحمن العتيقي وزير المالية آنذاك في أثناء زيارته إلى دبي، فقرر شراءه عندما وجد أن سعره مناسب، فاشترته وزارة المالية عن طريق هيئة الاستثمار، وأبلغوا وزارة الخارجية بقرار الشراء.
كانت الحياة في دبي في مراحلها الأولى متواضعة، ويتميز الناس بالطيبة، وفي تلك الفترة بدا واضحاً أن كثيراً من الشركات ورجال الأعمال بدأوا يتوافدون على دبي، وبدأت مظاهر الحياة الجديدة تتضح من خلال إقامة المشاريع وتوسع الحركة العمرانية.
وكنا نشاهد وصول رجال الأعمال من بريطانيا وأميركا وبعض الدول الأوروبية بكثرة، ووصول ممثلي شركات عالمية كبرى مثل شركة costaine and mcdermond وقد أسست الشركات الكبيرة والعالمية مواقع ومراكز لها في دول الخليج العربي، ومنها إمارة دبي، وبدأت البنوك بالعمل في دبي، وأصبحت الهجرة من كل الجنسيات إلى الإمارة واضحة.
بدأ العمل بشكل واضح وبارز في كل قطاعات العمل، واستقطبت دبي العمالة الماهرة من الفنيين والمهندسين، وكان التركيز على المشاريع المهمة في دبي، فقد انتهى بناء مستشفى راشد ومستشفى دبي، وبدأ العمل في ميناء جبل علي ووضع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (رحمه الله) حجر الأساس في ميناء جبل علي، وبعدها تم تشييد فندق جبل علي، وهو فندق كبير، كما قاموا بتوسعة مطار دبي.
ومن المهم أن نذكر سرعة التطور العمراني في دبي، ففي البداية كان التواصل بين إمارة دبي وبقية الإمارات عن طريق شارع واحد، أما اليوم فإن دبي هي الإمارة المتطورة والمرتبطة بشبكة طرق سريعة مع بقية الإمارات، لله الحمد، ولا يمكن للشخص أن يتخيل أنها كانت كما وصفتها سابقاً في السبعينيات.
وتجدر الإشارة إلى أن قرار بريطانيا الانسحاب من هونغ كونغ، أزعج كثيرين من رجال الأعمال، ودبَّ الخوف والهلع بينهم هناك، لأن المستقبل ينبئ بتغيير النهج التجاري الحر في هونغ كونغ، لذلك نشأت فكرة الانتقال من هونغ كونغ إلى بلد آخر، وقد وقع الاختيار على إمارة دبي، وهنا انهالت الشركات العالمية والمؤسسات التجارية والبنوك لبناء وتأسيس مقار لها في دبي. وفي المقابل قابلت الإدارة الحكومية في دبي هذا النشاط بالترحيب، وقدَّمت التسهيلات اللازمة لتشجيع قدوم الشركات، وأبدت كامل الاستعداد لقيام دبي بالدور المطلوب. وهكذا بدأت دبي بقوة الإرادة وحسن الإدارة.
وأتذكرعند وصولي إلى دبي أن قائد الشرطة في دبي كان إنكليزيا اسمه ميجور بريكس، وقابلته عند وصولي، وبحسب كلامه كان في قطر قبل وصوله إلى دبي، واستمر في منصبه إلى أن تخرُّج الشباب الإماراتيون وتولت القيادات الوطنية جميع المناصب في دبي، وبدأ التغيير، فقد حل محل القائد الإنكليزي العقيد عبدالله أبو الهول، وأصبح مساعده السيد محمد سعيد الغيث، وبعد فترة زمنية حلّ محلهما في منصب قائد عام شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان، والذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، وتطورت إدارة الشرطة وإدارة المرور، وصار فيها التقدم والتنظيم تحت الإدارة الوطنية.
في عام 1974 تسلّم الفصام رئاسة أول بعثة قنصلية في دبي والإمارات الشمالية
وقفة الأمير الشيخ عبدالله السالم مع دبي
بعد وصولي إلى دبي، تم تحديد موعد للقاء الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (رحمه الله) نائب رئيس الدولة حاكم دبي، وقد حضر من أبوظبي إلى دبي الأخ سعادة السفير سليمان ماجد الشاهين، سفير دولة الكويت لدى الإمارات، في أبوظبي، واستقبلنا الشيخ راشد في ديوانه العامر في دبي. ورحب بنا وأشاد بالعلاقات الكويتية الإماراتية، وخاصة بين إمارة دبي ودولة الكويت.
وكان الشيخ راشد يعبّر عن إعجابه بالكويت منذ بداية عهده في الحكم، وكان يردد دائما أن أساس نهضة دبي في البداية تعود إلى مساندة الكويت لها منذ عهد صاحب السمو الأمير الشيخ عبدالله السالم (طيّب الله ثراه). وقال الشيخ راشد في مجلسه العامر في دبي بحضوري مع مجموعة من رجالات دبي: «بدأنا العمل في دبي، ولكن نقصتنا الأموال، فقررنا أن نقترض المال من الكويت، وكنا نريد تصليح الخور ونؤسس الجمارك ونطور الميناء في الخور». وعندها بدأ السيد أحمد بن سلطان بن سليم برواية القصة (وهو وزير الدولة واليد اليمنى للشيخ راشد، وكانوا يسمونه مؤرخ الإمارات، فهو رجل ضليع وقارئ ويروي التاريخ بأمانة)، قال بن سليم في مجلس الشيخ راشد بحضور الجميع: «ذهبنا إلى دولة الكويت وقابلنا الشيخ عبدالله السالم، وشرحنا له احتياجاتنا ووضعنا وطلبنا منه قرضاً، فقال: كم تريدون؟ قلنا: 500 ألف روبية، فقال الشيخ عبدالله السالم: أعطيكم المبلغ كقرض، وإذا اكتمل البنيان وانتهيتم يتم استرداد المبلغ، فوافقنا». هذا ما رواه السيد أحمد بن سلطان بن سليم. وأكمل القول: «أخذنا المبلغ ورجعنا إلى دبي وبدأنا العمل في الميناء والجمارك وتغيّرت الظروف والأحوال إلى الأحسن، وعندما توافر المبلغ عندنا طلبنا زيارة الكويت لمقابلة الشيخ عبدالله السالم، فذهبنا وسلمنا على الأمير وجلسنا معه، وقلنا له: «نحن قادمون لتقديم الشكر والعرفان بعد أن أكملنا مشروع الخور، ولله الحمد تمكنا من استرجاع المبلغ المطلوب، وها نحن الآن نعيده مع شكرنا وامتناننا لهذا الموقف الأبوي الكريم»، فقال الشيخ عبدالله السالم: «هل انتهيتم تماماً ولم يتبقَ شيء؟» فأجبناه: «لله الحمد تم الانتهاء من المشروع على أكمل وجه».
وهنا قال الشيخ عبدالله السالم: «هذا المبلغ هدية من الكويت لكم». وأكمل: «إن الهدف من طلبي بأن يكون المبلغ قرضاً يُستعاد بعد انتهاء المشروع هو أن يكون الحرص في إنجاز العمل هو رائدكم، وبما أن المشروع اكتمل وتحقق الهدف المرجو، فإنني أقدم لكم مبلغ نصف مليون روبية كهدية من الكويت للمساهمة والمشاركة معكم في تطوير إمارة دبي». وعندها قال السيد أحمد بن سلطان بن سليم: «من شدة الفرح لم نستطع أن نعبِر عن شكرنا للشيخ عبدالله السالم على كرمه وعلى هذه الروح الطيبة، وبقي الشيخ راشد محتفظاً في قلبه ووجدانه وفاء ومحبة للكويت وللكويتيين وللأسرة الحاكمة إلى آخر أيامه».
دور الكويت في التوسط
وفي أثناء وجودي في دبي أبدى الشيخ راشد نائب رئيس الدولة رغبة في زيارة الكويت، وتلقى دعوة رسمية من سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، الذي كان وليا للعهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك، وتم ترتيب الزيارة بحضور وفد رسمي من دبي ضمّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وزير الدفاع آنذاك، والسيد ثاني بن عبدالله رئيس المجلس الوطني، والسيد سيف بن غباش وزير الدولة للشؤون الخارجية ومجموعة من الوزراء، وحضر من الجانب الكويتي السيد عبدالعزيز حسين وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، والسفير سليمان ماجد الشاهين، وحضرت مع بقية الوفد الكويتي، وعندما وصل الشيخ راشد إلى دولة الكويت، أعجب بالتطور، واطلع على معالم النهضة في الكويت، واستقبل عدداً كبيراً من الشخصيات الكويتية، وكانت زيارة ناجحة بكل المقاييس.
وبعد مرور فترة قصيرة على قيام الاتحاد كان لا بُد من التوقف قليلا لتعديل المسار الإداري والتنظيمي والمالي لدولة الإمارات العربية المتحدة. وكان للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، حاكم دبي، ملاحظات من المفروض أن تعرض على المجلس الأعلى للأخذ بها.
ومن بين هذه الملاحظات أن الشيخ راشد بن سعيد كان حريصاً على تنظيم الإدارة المالية ومشاريع الدولة، وكان غير راض عن أداء بعض الوزراء في الحكومة، الأمر الذي أدىّ إلى خلق أجواء من عدم الثقة في صفوف الحكومة، وهنا بدأت تطفو على السطح إشاعات بأن هناك خلافاً بين إمارتي أبوظبي ودبي، لكن حقيقة الأمر أن ما حدث هو اختلاف على بعض التفاصيل لتنظيم وإدارة الاتحاد فقط، وكان يشاع أن هناك خلافاً بين الشيخ زايد والشيخ راشد، رحمهما الله، لكن ذلك غير صحيح على الإطلاق، فكل منهما الشيخ زايد والشيخ راشد رجل دولة، ويتمتع بصفات القائد الحكيم الذي يهتم بأحوال الرعية. وفي ظل هذه الظروف طلب الشيخ راشد (رحمه الله) إلى الكويت أن تساهم وتساعد في إبداء الرأي وإيجاد الحلول المناسبة، وذلك لثقته المطلقة في نوايا الكويت التي لها باع طويل لرأب الصدع وإصلاح ذات البين وتسوية الأمور بصفاء نية وإخلاص ومحبة لبناء دولة الإمارات العربية الشقيقة واستقرارها.
فكان للكويت الدور الرائد والأساسي في التدخل والمساعدة على تذليل كل الصعاب التي تعترض مسيرة الاتحاد.
الشيخ راشد آل مكتوم كان يعبّر كثيراً عن إعجابه بالكويت
وهنا قرر الشيخ راشد إرسال السيد محمد سعيد الملا وزير المواصلات مبعوثاً شخصياً إلى الكويت لشرح وجهة نظره، وفعلاً سافر المبعوث إلى الكويت عدة مرات رافقته فيها، حيث قابل الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية آنذاك بالكويت في كل زيارة.
وكنت أنا بدوري أتعاون مع السفير سليمان الشاهين في أبوظبي ونتبادل الآراء والأفكار، وكان لا بُد من إزالة العقبات. وعلى هذا الأساس كتبتُ تقريراً مفصلًا اقترحت فيه إيجاد صيغة توافقية يتولى بموجبها الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم منصب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى منصبه كنائب رئيس الدولة، ويشكل الحكومة ويرأس السلطة التنفيذية، وبهذا نكون قد أنهينا بعض الخلافات وبعض المشاكل التي لم يكن لها أي داعٍ. وقمت بإرسال التقرير إلى الكويت، ولله الحمد تم الأخذ بهذا الرأي من قبل الجهات الرسمية العليا في الكويت وتبنته، وفعلًا دفعنا بهذا الاتجاه، وتحدث الشيخ صباح الأحمد مع الشيخ زايد آل نهيان والشيخ راشد آل مكتوم، فوافق الطرفان، وتم تشكيل حكومة الإمارات الجديدة، بعد أن تم تكليف الشيخ راشد آل مكتوم بتشكيلها ورئاستها، علماً بأن ميزانية الاتحاد كانت بالمناصفة بين أبوظبي ودبي، وقد طلب الشيخ راشد آل مكتوم إلى الكويت المساعدة في تنظيم الإدارة الحكومية، فتمّ انتداب السيد ضاري العثمان والسيد حمد الجوعان إلى دبي، حيث التقاهما الشيخ راشد آل مكتوم، وبالتعاون مع بعض المسؤولين تم إعداد مخطط وهيكل تنظيمي للدولة، وأود أن أشير إلى أن الشيخ راشد آل مكتوم كان يثق ثقة مطلقة بنوايا الكويت وإدارتها الحكيمة، ويأخذ بنصائحها لإدارة شؤون الدولة.
وأود تأكيد الدور الريادي الطموح للشيخ راشد آل مكتوم ونظرته الثاقبة في تأسيس النهضة الجديدة في دبي، فقد كان رجلاً بمعنى الكلمة، يعمل على مدار الساعة لبناء وطنه، ومن أبرز إنجازات الشيخ راشد بناء ميناء راشد، وتوسعة خور دبي، وبناء ميناء جبل علي، وبناء الحوض الجاف للسفن، وبناء مصنع الألمونيوم، وإنشاء محطة الكهرباء الضخمة لتغطية جميع احتياجات إمارة دبي، وبدأت العديد من المشاريع وأنشئت الطرق السريعة، وتم الربط بين الإمارات بالطرق والجسور.
لكن القدر لم يمهل الشيخ راشد آل مكتوم، حيث عاجله المرض، لكنه خلف من ورائه رجالاً، هم أبناؤه، الشيخ مكتوم، والشيخ حمدان (رحمهم الله)، والشيخ محمد، والشيخ أحمد، وكلهم رجال أكفاء.
والآن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هو نائب رئيس الدولة ورئيس الوزراء وحاكم دبي، وله دور كبير في استمرار نهضة دبي وتطورها.
وقد هيأت الظروف في دولة الامارات العربية المتحدة أن يتحد حكام الإمارات ليكونوا يداً بيد واحدة، ونهضت الإمارات بسواعد أبنائها وفكر قادتها، وهذه النهضة التي انطلقت في بداية السبعينيات مازالت مستمرة بعد أن غادرت دبي في ديسمبر عام 1982م ونقلت إلى الكويت.
وقبل أن أنهي الكلام عن الإمارات أود أن أذكر أن جميع حكام الإمارات يحملون في قلوبهم الود والمحبة والتقدير لما قدمته الكويت. والدليل على ذلك ما رأيته من مشاركتهم في احتفالات العيد الوطني لدولة الكويت المقامة في دبي، فقد شارك كل الحكام وفي مقدمتهم الشيخ راشد آل مكتوم حاكم دبي والشيخ سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، والشيخ حميد بن راشد، حاكم عجمان، والشيخ راشد بن أحمد المعلا، حاكم أم القيوين، والشيخ صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة، والشيخ حمد الشرجي، حاكم الفجيرة. وهذا دليل قاطع على محبتهم وعلى تقديرهم للكويت، ومتانة العلاقة بيني وبينهم لكوني قنصلًا عاماً للكويت في دبي.
دور الكويت في قيام الاتحاد
كان للتجار الكويتيين السبق في تأسيس مكاتب تجارية وشركات في دبي مثل: شركة محمد عبدالرحمن البحر، والسيد عبدالعزيز دخيل العصيمي استمراراً لدور السيد مرشد العصيمي الذي كان مقيماً في دبي وله علاقات وطيدة وقوية مع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، كذلك شركة الخنيني، والقطامي، وشركة بدر الروضان، وشركة عبدالله السيد رجب الرفاعي، وشركة مبارك الحساوي، وغيرهم من التجار الكويتيين الذي ساهموا مساهمة فعالة في بناء النهضة في دبي.
أيضا لا ننسى في بداية قيام الاتحاد، وهذا شيء مهم يجب أن يذكر، أن الكويت هي صاحبة الدور الرائد في قيام الاتحاد، حيث كانت المحاولة أن يتكون هذا الاتحاد من الإمارات السبع وقطر والبحرين، لكن كلا من البحرين وقطر أعلنت الاستقلال منفردة، وكان للشيخ صباح (رحمه الله) دور فاعل في تشكيل الاتحاد وتأسيس الدولة، وكان للكويت أيضاً دور رائد في المفاوضات المتعلقة باستقلال البحرين، وكان للمفاوضات التي أجرتها الكويت في جنيف سراً مع إيران أثرها في تحقيق ذلك.
وأكد السفير بدر خالد البدر في كتابه ومذكراته ذلك، وذكره لي شخصياً بحكم العلاقة الطيبة بيننا، وأوضح أنه كان يتفاوض نيابة عن البحرين وعلى أساسها تم الاستقلال، وأصبحت البحرين دولة مستقلة.
وهذه المهمات وهذه الأدوار لم تتوقف، وفي أثناء وجودي في دبي خلال 9 السنوات، بقيت العلاقات الطيبة ثابتة ولم تتغير، لأنها مبنية على أسس سليمة وقناعات راسخة وقواعد ثابتة لا يمكن أن يصيبها أي تغيير أو أي تأثير. وقد أسس مجلس التعاون الخليجي للم الشمل وتوحيد الكلمة وتوحيد الهدف والسعي دائما بشكل جماعي لمواجهة أي ضرر، وكان موقف مجلس التعاون أيام الغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت موقفاً مشرفاً ومسانداً للحق الكويتي.
المصدر: جريدة الجريدة
