في الوقت الذي تعكف وزارة العدل على دراسة منظومة التقاضي الحالية، ونيتها العمل على تعديل القوانين الإجرائية المنظمة لها، يتعيّن الأخذ بعين الاعتبار 4 محاور غاية في الأهمية، ومن شأنها أن تعيد النظر في تدفق القضايا على مرفق القضاء، سواء على صعيد النزاعات المعروضة على المحاكم الجزائية وغيرها.
وتتمثل المحاور الأربعة في، أولاً: إصلاح الإدارات القانونية في الجهات الحكومية، وتطوير أدائها، وثانياً: تطوير أداء اللجان المعنية بالفصل في المنازعات العمالية، وثالثاً: العمل على تفعيل الصلح الجنائي، ورابعاً: إقرار مشروع ما يسمّى بمساعد القاضي للعمل ابتداء بأنظمة التوفيق والتسوية والوساطة والتحكيم والتفاوض.
ولأن لتلك المحاور أهمية كبيرة في خفض أعداد القضايا المحالة إلى المحاكم في دولة الكويت، فإنه يتعيّن الوقوف على المجهود الذي تؤديه حالياً، والذي يُتوقّع أن تؤديه بشكل أفضل، فيما لو تم تطويرها وبناؤها على النحو الأمثل، بما ينعكس على منظومة التقاضي.
وأول تلك المحاور يكمن في إصلاح الإدارات القانونية العاملة في الوزارات والمؤسسات والهيئات العامة، وهي التي تعاني تراجعاً في أدائها على نحو تعتمد فيه أغلب الإدارات اليوم على الرأي الاستشاري من مستشاري مكتب الوزير المنتدبين غالباً من أساتذة كليات الحقوق، أو حتى من إدارة الفتوى والتشريع، بعدما كانت تعتمد الكثير منها سابقاً على عدد من المستشارين المنتدبين من بعض الدول العربية، والذين تم إنهاء التعاقد معهم، بعد تطبيق سياسة التكويت والإحلال الوظيفي.
ولأن عبء العمل في تلك الإدارات ثقيلاً من دون توفير أي حوافز مالية أو بدائل، أصبح العمل في تلك الإدارات طارداً، وغير مُرحّب فيه، نظراً لما تمثّله من مسؤوليات كبيرة على العاملين فيها، ولذلك، فإن تطوير تلك الإدارات وردّ الثقة لديها، بات أمراً مهماً لتنظيم العمل القانوني في تلك الجهات الحكومية أولاً، ولقدرتها في تسوية الأنزعة داخل تلك الجهات قبل وصولها إلى المحاكم ثانياً.
ومن المهام المسندة لتلك الإدارات القانونية على سبيل المثال، القيام بدراسة التظلمات التي يرفعها الموظفون في الجهات الحكومية على القرارات التي تصدرها جهات عملهم ويرون عدم سلامتها، ومن ثم، فإنّ العمل على تسويتها على نحو حقيقي وجدّي يكفل أدنى علاجات العدالة، وسوف يقلل من فرص عرض تلك الأنزعة أمام المحاكم، كما أن قيام تلك الإدارات في مراجعة العقود والآراء القانونية على نحو سليم، سوف يقلل كذلك من فرصة عرض تلك الآراء للطعن عليها أمام القضاء، طالما بذل فيها البحث القانوني الوجيه والمدعم بالأسانيد القانونية الفقهية والقضائية.
كما أن قيام تلك الإدارات على إجراء التحقيقات الإدارية مع الموظفين، واتباع الإجراءات التي كفلها قانون الخدمة المدنية، وتوفير جميع الضمانات للموظفين في التحقيقات الإدارية، التي تجريها تلك الإدارات، سيجعل كذلك من أمر وصول تلك الأنزعة المرتبطة بالتحقيقات الإدارية أمراً ضئيلاً، طالما مورست جميع الإجراءات المتبعة في التحقيق واتباع مبادئ تدرّج العقوبات على الموظفين، عملا بأحكام قانون الخدمة من دون تعسّف أو غلوّ.
والقيام بتلك المهام القانونية بالتأكيد يتطلب توافر الكفاءات القانونية الوطنية، التي مارست العمل القانوني، والتي تدرّبت على أصول الكتابة والبحث العلمي، وهو ما يتطلب في المقابل إزاء توفيرها دعمها بكل البدلات المالية، التي تحفزها على التعيين أو البقاء في تلك الإدارات، لأنّ عدم توفير تلك البدلات لها سيجعل بيئة عمل طاردة، نظراً للأعباء والمسؤوليات الكبيرة التي يقوم بها هؤلاء الموظفين.
ولذلك، فإن إصلاح الإدارات القانونية وتطويرها أمر في غاية الأهمية يتعين التنبّه له من قبل القائمين على العمل في الوزارات ومجلس الخدمة المدنية، فضلاً عن توفير الدورات القانونية التي تعمد على تطوير أعمالها، وصقل القائمين عليها بصنعة الصياغة القانونية والبحث وكتابة الآراء وأصول التحقيق الإداري ومهارة الفصل في التظلمات القانونية، ولا يمنع أن تتم الاستعانة في تحقيق تلك المهارات والخبراء بمعهد الكويت للدراسات القانونية والقضائية، والذي يقوم بعمل فني كبير في تطوير أداء ومهارات أعضاء السلطة القضائية، ولا يمنع قانونه ولا لوائحه القيام بهذه المهام.
من جانب آخر، بإمكان الإدارات القانونية الحالية الاستفادة من فائض الأعداد الذي تعانيه إدارة الفتوى والتشريع، والذي يبلغ عدد المحامين المعينين فيها قبل 5 سنوات، ما يزيد على 500 محام، بأن يتم توزيع 250 منهم للعمل في الإدارات القانونية بجميع الجهات الحكومية، مع احتفاظهم بكل امتيازاتهم المالية التي يتقاضونها حالياً في عملهم بـ «الفتوى والتشريع»، مع خضوعهم لدورات قانونية مكثفة في معهد القضاء.
250 محامياً من «الفتوى» لمواجهة 800 ألف قضية تُعرض سنوياً على المحاكم
وسيؤدي ذلك الدعم للإدارات القانونية في الجهات الحكومية إلى تطوير أدائها ورفع جودتها، بما يخفّض من أعداد القضايا التي سيتم عرضها إلى المحاكم، وذلك لسلامة القرارات التي تتخذها الجهات في المجالات التي ستُعرض عليها.
منظومة العمل
بينما المحور الثاني، يتمثل في تطوير منظومة العمل، التي تقوم عليها لجان فضّ المنازعات التابعة لهيئة القوى العاملة، والتي لا يسمح نظام العمل بها حالياً بالتوصل إلى حل الأنزعة بين العامل وربّ العمل، ويجعل من أمر عرضها أمام تلك اللجان أمراً شكلياً، مما يستدعي إعادة النظر في نظام التسوية وفضّ المنازعات على نحو جدي ويحقق التوازن بين حقوق العامل، وعدم ابتزاز رب العمل في اللجوء إلى هذا الطريق، ويظهر بذات الوقت سلطة هيئة القوى العاملة في حسم هذه الأنزعة، بعد إعادة تنظيمها من جهات تمثّل العامل وأخرى من أرباب العمل ومن الجهات المشرفة على هذه اللجان من هيئة القوى العاملة.
وسوف يعمد تفعيل دور تلك اللجان في حسم الأنزعة إلى خفض أعداد القضايا المحالة إلى المحاكم، وسيسهم في حل العديد منها أمام تلك اللجان، بما يعيد الحقوق أو الحد الأدنى منها لمستحقيها من دون عرضها أمام المحاكم.
محاكم الجُنح
بينما المحور الثالث الذي يتعين التنبه إليه، هو تفعيل الصلح الجنائي في القضايا الجزائية من جنح وجنايات، وذلك إذا ما نظرنا إلى أن نحو 700 ألف قضية إلى 800 ألف تُعرض سنوياً أمام محاكم الجنح، هي من قضايا جنح البلدية والشؤون والإطفاء والغذاء والمرور والبيئة والتجنيد، من دون تفعيل من تلك الجهات القائمة على تحرير المخالفات إلى الصلح الجنائي الفعّال على المخالفين لأحكام القانون.
فعلى سبيل المثال، فإن 50 بالمئة من تلك المخالفات تُحال إلى محاكم الجنح من دون أدنى تحقيق يجرى فيها، ويتم إحالتها من الجهات المحررة للمخالفات إلى جهات الادعاء في إدارة التحقيقات والنيابة العامة، والتي تحيلها بدورها مباشرة إلى محاكم الجنح.
ولو كتب لتلك الجهات العمل على تفعيل الصلح الجنائي بسداد الغرامات أو إزالة المخالفات مع التعهّد بعدم تكرارها، فلن تعرض آلاف من تلك القضايا على محاكم الجنح، خاصة وأن القوانين المنظمة لتلك المخالفات حديثة، وتنصّ على إحالتها إلى المحاكم وجهات التحقيق، كالادعاء العام والنيابة العامة، ثم إلى القضاء، وهو ما يستدعي أمر مراجعتها أو استحداث أحكام في قانون الإجراءات على تفعيل الصلح الجنائي توقيّا لإحالتها إلى القضاء، للتخفيف عن منظومة القضاء، والتي تتطلب الفصل فيها من قبل قضاة متخصصين يُعهد لهم النظر فيها.
مساعد القاضي
بينما المحور الرابع، الذي يتعيّن البحث فيه، فهو استحداث منصب مساعد القاضي، وهو ما سبق طرحه كمشروع قبل أكثر من 10 سنوات، عندما كان المستشار يوسف المطاوعة رئيساً لمجلس القضاء، ومهمة المعينين لهذا المنصب وفق الفكرة المعروضة في حينها أن يساندوا الهيئات القضائية العاملة، إلا أن فكرة استحداث منصب مساعد قاضٍ بالإمكان الأخذ بها للتعيين في الإدارات المعنية بالتسوية والوساطة والتوفيق والتفاوض، والتي ستكون تحت إشراف قضائي، وبعد خضوع العاملين فيها لدورات متخصصة تؤهلهم لممارسة الأعمال الخاصة بالتسوية والوساطة والتفاوض، وغيرها من الإجراءات البديلة عن التقاضي، ومن ثمّ يتم تعيين تلك الخبرات القضائية لاحقاً في الوظائف القضائية، بعد اجتيازهم فترات زمنية في العمل داخل منظومة التقاضي.
وتلك المحاور الأربعة المهمة ستعمل، بالتأكيد، على تخفيف منظومة التقاضي، التي تقارب اليوم نظر ما يزيد على مليون وخمسمئة ألف قضية سنوياً موزعة بين جميع المحاكم بهيئاتها الجزائية وغير الجزائية، وستقلل من فرص وصول القضايا غير الملحّة أو الجسيمة إلى القضاء، مما يجعل من أمر عرض القضايا المستحق بحثها أمرا يسيرا على منظومة التقاضي، وبما يكفل جودة التقاضي.
المصدر: جريدة الجريدة