نعمت افرام: هكذا صار الاهتراء في لبنان يحمل دماءً على يديه
لم يحجب ضجيجُ المَدافع على الجبهة الجنوبية مع اسرائيل القضايا الساخنة في لبنان الذي يُلاطِم أزماتٍ شاملةً انفجرتْ دفعةً واحدة في العام 2019 وما زالت تداعياتُها في الميادين المالية والاقتصادية والإدارة والسياسية تَحْفُرُ في الدولة المؤسسات والمجتمع والقطاعان العام والخاص ولا سيما في ظل عدم رغبة المنظومة الحاكمة أو عدم قدرتها على إدارة دفّة الإصلاح.
وفي واحدٍ من الأنشطة التي ينظّمها «لقاء الهوية والسيادة» في لبنان برئاسة الوزير السابق يوسف سلامة، جاء صوت رئيس المجلس التنفيذي لمشروع «وطن الإنسان» النائب نعمت افرام مدوّياً في عرْضه رؤية عنوانها «حماية التوازن في بنية الاقتصاد اللبناني» تَناوَلَ عبرها بعلميةٍ جذور الأزمة الحادة التي ضربت لبنان، عارضاً بواقعية لخريطة طريقٍ للنهوض من الكبوة التاريخية التي تعيشها «بلاد الأرز».
وفي حضور عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات العربية في «لقاء الهوية والسيادة» عامر بحصلي وحشدٍ من الشخصيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بينها الوزير الأسبق للداخلية زياد بارود، استهلّ سلامة الندوةَ بكلمةٍ لخّص فيها الأسباب التي من أجلها قام «اللقاء» والأهداف التي يطمح إليها قائلاً إن «لقاء الهوية والسيادة» نشأ «كحالة اعتراضية في المجتمع اللبناني أولاً وكأكاديمية وطنية تعالج أمراضاً وجودية وسياسية ووطنية يعانيها البلد».
وأضاف: «ان وثيقة اللقاء شددت على قيام دولة مدنية لامركزية حيادية مع تصور كامل لوجع لبنان السياسي. وهَدَفَ اللقاء منذ نشأته الى اكتشاف القاسم المشترك مع كل الكتل النيابية إلا أنه لم يفلح في ذلك نتيجة جشع التسلط على الوطن من جهة واتباع أجندات أجنبية من جهة أخرى».
وفي سياق التأكيد على هذا الطرح والتقديم لمداخلةِ النائب نعمت افرام أعطى سلامة مثالاً يختصر كيفية تصرف السلطة على مدى عقود قائلاً «منذ ثلاثين عاماً وقف الوزير الإصلاحي جورج افرام والد النائب نعمت افرام في وجه المنظومة واقترح حلولاً عملية وغير مكلفة لمشكلة الكهرباء في لبنان لكنه جُبه من المنظومة وتمت الإطاحة بمشروعه ليَغرق لبنان بالعتمة والانهيار ويتزعزع استقراره ويهاجر أبناؤه».
وتساءل سلامة «هل النائب نعمت افرام الذي يستضيفه اللقاء للتحدث عن حماية التوازن في بنية الاقتصاد اللبناني سيقود مساراً إرشادياً أم مسار مواجهة؟».
النائب نعمت افرام، الذي لا يغادر اسمُه ولا «بروفايله» كواليسَ الانتخابات الرئاسية كمرشح إنقاذٍ، شَرَحَ في بداية حديثه كيف أن المنظومة السياسية التي بدأت تتكوّن منذ 30 عاماً تحوّلت الى «كائن حي يتغذى من نفسه ويكوّن جهاز مناعته الخاص، وقد استطاع أن يبقى حياً بفضل جهاز المناعة القوي هذا الذي امتصّ كل الصدمات ووقف في وجه الإصلاحات وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها»، وقال: «اليوم إن لم نكن قادرين على تحويل الأزمة التي نمر بها الى فرصة فأنها كفيلة بإغراقنا. علينا أن نتصور مقاربة جديدة للأزمة تجعلنا نتعلم منها ونعلم عبرها الأجيال المقبلة».
تسييس الإدارة سبب الانهيار
الأزمة التي يعيشها لبنان حالياً يردّها افرام الى الحرب الباردة التي عاشتها البلاد بين السياسة والإدارة، «فحين دخل مفهوم السياسة الى كل باب ونافذة وزاوية في الإدارة بدءاً من الفئات الأولى وصولاً الى أدنى الفئات»اختربت«الأمور وعمّ الفساد. وهذا التداخل بدأ منذ العام 1991 حين تم ّتعليق العمل بقانون الرئيس فؤاد شهاب الذي أُقرّ في الستينات وكان يمنع على أي شخص حزبي الدخول الى ملاك الدولة».
ويقول افرام «حتى خلال الحرب الأهلية في لبنان كانت مؤسسات الدولة لا تزال محميةً من السياسية. لكن موسماً بعد آخر بدأت تتهاوى قطع من مؤسسات فؤاد شهاب ليتم تسييس الإدارة، حتى وصلت الى وقت صارت فيه غير مُنْتِجة مطلقاً وتعاني هوة واسعة بين ما يتوجب عليها أن تنجزه وبين واقعها، وأصبح عملها ترقيعاً وانتهت بالتحول الى خدمة السياسيين بدل الإنتاجية، ودخل البلد في دائرة مفرغة حيث أنه كلما قوي السياسيّ أمعن في كسر الإدارة كمؤسسة وازداد تراجعها، وحلّت العلاقات الخاصة محل العلاقات المؤسساتية بين الدولة والناس. ومن جهته تعوّد الناخب على هذا النمط من الخدمات ولم يعد قادراً على الخروج منه ولم يعد يسأل عن كلفة الخدمة او سرعتها».
هذه العلاقة المتداخلة في رأي افرام أوصلت خلال عشرين عاماً الى الانهيار الكبير، وكان المؤشر الأول عجْر الميزانية “ففي قانون الطبيعة، أي مؤسسة لا تعمل بشكل صحيح تخسر، لكن لبنان أراد تحدي قوانين الطبيعة وأنظمتها فتصاعَدَ العجز في شكل مخيف.
وبعدما شرح افرام جذور المشكلة، انتقل الى البحث عن حلول مؤكداً «أن وحش المؤسسات المسيَّسة قد مات ولا يمكن إحياؤه. أما طريق الحل فيبدأ بالبحث عن الطرق المطلوبة لعزل الإدارة عن السياسة وتنظيمها بعد تحديد عدد ملاكها. وبعدها تفعيل مؤسسات القضاء ورفع عدد القضاة ليصبحوا حجر الزاوية لحماية الإدارة من السياسة وتجريم هذا»التحرش«بقوانين خاصة كما هو الحال في الهند مثلاً».
الصناعة ركيزة الاقتصاد
وبعد هذا الدرس الأول الذي ينبغي تعليمه للأجيال المقبلة انتقل افرام الي الدرس الثاني الذي يجب أن يتعلّمه لبنان من الأزمة وهو ضرورة توازن اقتصاده. ويقول شارحاً إن الصناعة كانت تشكل 25 في المئة من الناتج المحلي اللبناني سابقاً لكنها تراجعت في الأعوام التي سبقت الانهيار الى 8.5 في المئة فقط في حين أن الاقتصاد يجب أن يكون متوازناً ليكون مستقراً. وشبّه الاقتصاد اللبناني وكأنه «يعوم على صفائح تكتونية متحركة تهتزّ تحته مع كل حدَث وتجعله في حالة من عدم الاستقرار، وقد برهنت الاعوام ان الصناعة هي أكثر القطاعات الاقتصادية استيعاباً للصدمات على خلاف السياحة أو الخدمات أو المصارف ولذا يجب أن تلعب دوراً أكبر من أجل استقرار الاقتصاد وأن تتكامل مع غيرها من القطاعات».
ويعطي افرام مثالاً عملياً قائلاً إن السياحة تزداد قيمتها أو مردودها متى كان المنتَج المستخدَم لبنانياً وبذلك يصبح كل سائح بمردود ثلاثة سواح لأنه ينشّط معه عمل الصناعي والمزارع.
وينتقل افرام الى الدرس الثالث الذي على اللبنانيين استخلاصه من الأزمة و هو حسن قراءة المؤشرات التي كانت تنذر بالخطر الآتي ولكن اللبنانيين يتجاهلونها.
مؤشرات الخطر
المؤشر الأول في رأيه الذي أَنْذَرَ بالخطر هو العجز في الموازنة فلو تمت قراءته بشكل صحيح لَما وصل لبنان الى هذه المرحلة «فقد أصرت الحكومات المتعاقبة على إبقاء تعرفة الكهرباء ذاتها ودعم المشتقات النفطية ولم تشأ رفع الضرائب وكأن حكومات الجيل الماضي كانت تستدين من الأجيال المقبلة دون أن تدري».
وبناء على مؤشر العجز لا بد من إصدار قانون في مجلس النواب يمنع تقديم موازنة تتضمن عجزاً والسعي الى الوصول الى صفر عجز وإلا «فإننا لا نكون قد تعلّمنا اي شيء من الانهيار الذي وصلنا إليه». وكذلك لا بد «من رفع الوعي عند المجتمع اللبناني ليدرك أن كلفة إزالة الضرائب أشدّ وأخطر من كلفة تحمّلها وان الدولة غير قادرة على تحمّل كلفة عدم رفع الضرائب. ولكن تصفير العجز وحده لا يكفي إذ يجب وضع خطط خمسية والتخطيط لخمس سنوات على الأقل وجعل الموازنة السنوية جزءاً من الخطة الخمسية وتعديلها وتقييمها سنة بعد أخرى وفق مسار الخطة الموضوعة».
ويتابع افرام شارحاً ضرورة وضع مؤشرات أساسية تتمّ مراقبتها باستمرار منعاً لتكرار الأزمة «ومن ضمنها مؤشر خلق فرص عمل وهو مؤشر أساسي في دول العالم، فيما في لبنان لا أحد يهتم به كون يتطلب تخطيطاً واستشرافاً للمستقبل واستقراراً سياسياً».
ويختم افرام محاضرته بتكرار قوله «بضرورة الاستفادة من الأزمة لحل المشكلة الأساسية التي أوصلت لبنان الى الانهيار والمتمثلة بتدمير الإدارة، ووجوب السعي لتنظيف هذه الإدارة وإعادة بث الحياة فيها لتصبح مؤسسات مربحة يمكن من خلال ربحها تصحيح الخطأ وإعادة أموال المودعين وجعلها حجر الزاوية في بناء لبنان الجديد». ويؤكد أنه «لا يمكن للحال أن تستمر على ما هي وخصوصاً أن الإدارة في لبنان وصلت الى حال من الاهتراء صارت تحمل معه دماء على يديها كما حصل في انفجار الرابع من اغسطس 2020».
وفي رده على سؤال حول أموال المودعين أكد افرام أنه ضد الرأي القائل إن أموال المودعين تبخرت، موضحاً أنه يجب «العمل بكل الطاقات لإعادة جزء منها». وأشار إلى أن الأموال «لن تعود إلا بعودة مؤسسات الدولة الى العمل، وعلى كل مواطن ان يكون خفيراً يراقب سير المؤسسات ليضمن إعادة أمواله ولو احتاج الأمر الى 5 او 6 سنوات».
وكانت مداخلات من الحاضرين تمحورت حول اللامركزية الإدارية وإعادة هيكلة المصارف و مصير أموال المودعين.
تهديدات جدية
وعلى هامش المحاضرة توجهت «الراي» بسؤال الى النائب نعمت افرام حول رأيه بالتهديدات الإسرائيلية للبنان ومدى جديتها فأجاب: «لا شك في أنها تهديدات جدية ويجب أن نخشاها، لكن الخوف ليس من إسرائيل فقط بل كان يجب ان نخاف منذ عشرين عاماً. لكن لا شك في أن الوضع في الجنوب يتدرّج تصاعدياً بالنسبة الى ما يحصل على الأرض ومخاطره». ويختم: «كلنا نتمنى ان تعود الأمور الى صوابها بأسرع وقت، إذ أن الكل في لبنان يشعر بأنه ليس من مصلحة البلد أن يكون ثمة مشاكل على حدوده».
من جهته أكد عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات العربية في «لقاء الهوية والسيادة» عامر بحصلي عبر «الراي» جدية طروحات افرام، مشيراً إلى «أن تطبيقَها يحتاج إلى سلطة قادرة وتتمتع بأوسع العلاقات مع العالم العربي لضمانِ تجديد شبكة الأمان التي لطالما شكّلت رافعةً للبنان وبوليصةَ تأمينٍ له بإزاء كل النكبات التي ألمّت به والمَخاطر التي أحاطت به وما تزال».
المصدر: الراي