تُعد الشفافية المالية والإدارية حجر الزاوية في نجاح أي خطة تنموية، فهي الضمانة الأساسية لتوجيه الموارد المالية إلى الأهداف والمشاريع الصحيحة، التي تعود بالنفع المباشر على المواطنين، فمنذ انطلاق سلسلة الخطط التنموية في الكويت عام 2010 حتى آخر خطة في عام 2024 معلنة، يبرز التساؤل الأهم: أين تذهب الأموال المرصودة لخطط التنمية؟
وتكشف الحسابات الختامية الرسمية للسنوات المالية من 2019/ 2020 إلى 2023/ 2024 عن فجوات كبيرة بين الميزانيات المعتمدة والمصروفات الفعلية، مما يعكس مشكلة مزمنة في تنفيذ الخطط التنموية، ففي السنة المالية 2022/ 2023 على سبيل المثال، أظهرت الحسابات الختامية لتلك السنوات أن نسبة الصرف الفعلي للمشاريع التنموية لم تتجاوز 56.4 في المئة من الميزانية المرصودة، الأمر ذاته تكرر بنسب متفاوتة في السنوات السابقة، ما أثار تساؤلات مشروعة حول مصير الأموال غير المنفقة، وأسباب عدم تنفيذ المشاريع رغم رصد التمويلات اللازمة.
تعدَّدت الأسباب التي أدَّت إلى الفجوة الواضحة بين ما يتم التخطيط له وما يتم تنفيذه فعلياً على أرض الواقع، على رأس هذه الأسباب البيروقراطية الإدارية التي تعطِّل سير المشاريع، وتتمثل في بطء الدورة المستندية، وتعدُّد الجهات الرقابية، ما يؤدي إلى تأجيلات متكررة، أو توقف تام لبعض المشاريع.
نسبة الصرف الفعلي للمشاريع التنموية لم تتجاوز%56.4 من الميزانية المرصودة
كما لعبت التغيُّرات السياسية دوراً سلبياً واضحاً في تعطيل مسار التنمية، حيث تسبَّبت التغيُّرات المتكررة في المناصب الوزارية وتبدل الأولويات مع كل تشكيل حكومي جديد في تأجيل القرارات الحاسمة وتعطيل المشاريع الكبرى.
من جانب آخر، لا يمكن إغفال جانب تذبذب أسعار النفط وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي مراراً وتكراراً، ما أدى إلى نقص التمويل الفوري واللازم لتنفيذ مشاريع تنموية طويلة الأجل، وبالتالي التراجع في مستوى التنفيذ، مقارنة بما تم التخطيط له في بداية كل سنة مالية.
مصير الأموال
واحدة من أبرز القضايا التي تحتاج إلى مزيد من الوضوح والشفافية هي مصير الأموال غير المنفقة على المشاريع التنموية، حيث تُظهر الحسابات الختامية أن هناك وفورات مالية كبيرة لم يتم استخدامها في تنفيذ المشاريع المرصودة لها، من دون توضيح واضح بشأن كيفية إعادة توجيه هذه الأموال، والسؤال المُلح هنا: هل يُعاد تدوير هذه الوفورات المالية لتنفيذ مشاريع تنموية جديدة، أم تُستخدم لسد عجز الميزانية العامة؟ أو يتم استخدامها فيما يُعرف بنقل بنود الميزانية التي طالما كانت تتكرر في مناقشات الميزانية، وتُعد من التجاوزات الإدارية والمالية، ونتج عنها قضايا كثيرة أشهرها كانت القضية المعروفة إعلامياً بقضية «ضيافة الداخلية».
ويشدد مراقبون على أهمية تعزيز الرقابة والمساءلة، لضمان الاستخدام الأمثل للموارد المالية العامة، لاسيما أن الرقابة المالية والإدارية تُعد العنصر الأساسي لضمان شفافية وفاعلية تنفيذ المشاريع التنموية. ورغم الجهود المبذولة من قِبل ديوان المحاسبة والجهات الرقابية الأخرى في تقديم تقارير سنوية، فإن تأثير هذه التقارير في تحسين الشفافية المالية والإدارية لا يزال محدوداً، فالتوصيات التي يقدِّمها ديوان المحاسبة تظل في كثير من الأحيان دون متابعة أو تنفيذ حقيقي، الأمر الذي يقلل من فاعلية الرقابة المالية، ويُضعف من دور المساءلة.
وبمقارنة أداء الكويت مع دول خليجية أخرى، كالإمارات والسعودية، نجد أن هذه الدول قد حققت تقدماً ملحوظاً في تنفيذ المشاريع التنموية وفق الجداول الزمنية المحددة. ففي الإمارات، على سبيل المثال، تعتمد الحكومة نظاماً واضحاً لقياس أداء المشاريع التنموية، وتقديم تقارير دورية مفصلة عن حالة تنفيذها، كما وضعت السعودية آليات صارمة للرقابة والمساءلة ضمن رؤية 2030، ما ساعد في تقليل فجوة التنفيذ وتسريع وتيرة الإنجاز، بل إن هناك سباقاً زمنياً في نسبة إنجاز المشاريع عن النسبة الموضوعة على ورق الخطط المُراد تنفيذها.
الدوران في فلك تكرار الأخطاء لن يأتي بنتيجة طالما كانت آلية التعامل مع هذه المشاريع والمشاريع المستقبلية بنفس المعطيات التي تسير عليها المشاريع في الماضي، لذا سيكون الحد من فجوة التنفيذ وتعزيز الشفافية في إدارة ميزانيات التنمية يتطلب إعادة هيكلة الإجراءات الإدارية، وتبسيط الدورة المستندية، وتطبيق آليات حديثة للمساءلة والرقابة المالية، وتفعيل دور ديوان المحاسبة بشكل أكبر إلى جانب الجهات الرقابية الأخرى، وضمان نشر تقارير مالية وإدارية دورية ومفصلة عن مسار المشاريع التنموية، فضلاً عن إشراك منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بشكل فعَّال في الرقابة والمتابعة، وآخرها تعزيز ثقافة المساءلة والشفافية داخل المؤسسات الحكومية.
فتحقيق التنمية المستدامة التي تطمح إليها الكويت في إطار رؤيتها المستقبلية لن يكون سهلاً من دون إرساء مبادئ الشفافية والمساءلة بشكل حقيقي وفعَّال، فالوضوح في استخدام الموارد المالية العامة، وتعزيز الرقابة على المشاريع التنموية، ليس مجرَّد خيار، بل ضرورة لضمان مستقبل تنموي أفضل وأكثر استدامة، ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتحرَّك الجهات المعنية لتعزيز الشفافية فعلاً؟ أم ستبقى ميزانيات التنمية عالقة بين التخطيط وأوامر التنفيذ؟
المصدر: جريدة الجريدة