في عام 2001، استيقظت الكويت على نبأ صادم «مواطن كندي يُقتل رمياً بالرصاص في سوق الفحيحيل، وسط توترات سياسية وأمنية كانت تشهدها المنطقة آنذاك، بالتزامن مع تصاعد التحضيرات العسكرية لغزو العراق ودخول القوات الأميركية للمنطقة».

وكانت الجريمة غامضة، والضحية من الأجانب، وزوجته فلبينية، وعليه لم تتأخر الأجهزة الأمنية في التحرك، ليعلن لاحقاً ضبط مواطن كويتي، واتهامه بتنفيذ الجريمة، وقد وقع الاختيار على تلك القضية لتكون موضوع الحلقة الرابعة من «رفعت الجلسة»، الذي يقدمه الزميل د. حسين العبدالله.


في البداية، بدا الأمر كأنه محسوم، فقد وضع المتهم رهن الحجز لأكثر من عشرة أيام، وقيل إنه اعترف، غير أن الأمور لم تسر وفق هذا السيناريو طويلاً، فقد أخلت النيابة سبيله، لتتسارع بعدها مجريات التحقيق، وتنقلب الوقائع رأساً على عقب.

لاحقاً، أعلنت وزارة الداخلية أن القاتل الحقيقي لم يكن المواطن الكويتي الذي تم احتجازه أولاً، بل شخص آخر من الجنسية الفلبينية، كشفت عنه اعترافات زوجة القتيل، فقد تبين أن الزوجة الفلبينية كانت على علاقة بصديق لها من بني جلدتها، اتفقت معه على قتل زوجها الكندي، وزودته بالسلاح، وحددت له مكان الجريمة، ليقوم بإطلاق النار عليه في وضح النهار، بأحد الأسواق الشعبية.

الدافع لم يكن عاطفياً، بل كان مادياً بامتياز، فالضحية كان مؤمناً على حياته بمبلغ ضخم قدر بثلاثة ملايين دولار، ولم يكن لديه أبناء، ما يعني أن زوجته ستكون المستفيدة الأولى وربما الوحيدة من هذا المبلغ التأميني الضخم بعد وفاته.

هكذا، أحيلت القضية إلى القضاء، وتحديداً إلى محكمة الجنايات، حيث كانت تنظرها الهيئة القضائية بالدور الرابع في قصر العدل، برئاسة المستشار الراحل صلاح الفهد، رئيس محكمة أمن الدولة في ذلك الوقت، وهو أحد أبرز القضاة الذين تولوا الفصل في قضايا أمنية حساسة بعد الغزو العراقي الغاشم.

وعرف المستشار صلاح الفهد بصرامته في المحاكمات ذات البعد الأمني، وهو من القضاة القلائل الذين رخص لهم حمل السلاح داخل المحكمة، كنوع من الحماية الشخصية في ضوء حساسية القضايا التي كان ينظرها، وكان من عادته وضع السلاح على منصة القضاء أثناء الجلسات.



في إحدى الجلسات، التي حضرها جمهور كبير، كان ضابط المباحث هو الشاهد الأبرز، وكان محامي الدفاع يسعى إلى تفنيد ما ورد في التحريات، وعندما سأل المستشار الفهد الضابط عن أدلته، أجاب بأن التحريات «سرية»، ثم سأله عن مكان السلاح المستخدم في الجريمة، فأجابه الضابط بأن المتهم تخلص منه في البحر، عندها انفعل الفهد قائلاً: «تبيني أزهق روح إنسان… عشان تحرياتك السرية؟».

وبالفعل، أصدرت المحكمة حكمها الجريء ببراءة المتهم الفلبيني الأول من تهمة القتل، لعدم اطمئنانها إلى أقوال الضابط، ولغياب السلاح كدليل مادي على الجريمة، ورغم أن النيابة العامة كانت تطالب بعقوبة الإعدام فإن المحكمة رأت أن الملف يفتقر إلى أدلة كافية، وهو موقف قضائي لافت في ظل ظروف سياسية وأمنية كانت مشحونة آنذاك.

محكمة التمييز أيدت هذا الحكم لاحقاً، لتغلق القضية دون إدانة مباشرة لمن نفذ الجريمة، بينما صدرت بحق الزوجة الفلبينية عقوبة السجن عشر سنوات، بعد اعترافها الكامل بتفاصيل الجريمة، وتحقيقها الهدف المالي من قتل زوجها.

أما المستشار صلاح الفهد فقد كان له موقف إنساني مميز حتى في أيامه الأخيرة، في آخر يوم عمل له، وكان يوم خميس، وكان من المفترض أن ترفع الجلسات في وقت مبكر، لكنه استجاب لطلب خاص بإجراءات رد اعتبار لبعض المواطنين، وقضى ساعات طويلة حتى الرابعة عصراً، ليصدر أحكاماً تعيد الاعتبار القانوني لأشخاص صدرت بحقهم أحكام سابقة، ما مكنهم من استعادة حقوقهم المدنية والاجتماعية.



لم يمر سوى يومين على ذلك الخميس، حتى أعلنت وفاته، رحمه الله عليه، الذي كان رحيماً في أحكامه، وطويت صفحة أحد أبرز القضاة في تاريخ القضاء الكويتي، الذي أصدر عشرات الأحكام في قضايا أمنية بارزة، من بينها ملفات التعاون مع النظام العراقي البائد، وقضايا تفجيرات، وصولاً إلى محاكمات فنية شهيرة شملت أسماء بارزة في الوسط الفني والإعلامي.

يذكر أن محكمة أمن الدولة كانت قد ألغيت رسمياً عام 1995، بموجب القانون، لكن استمر تصنيف بعض القضايا ضمن نطاق «حصر أمن دولة» لسنوات بعد ذلك، قبل أن تختفي تدريجياً من السجلات القضائية الكويتية.

قضية المقيم الكندي، على غرار غيرها من القضايا التي شهدها قصر العدل القديم، كانت واحدة من المحطات التي اختبرت فيها العدالة الكويتية قدرتها على التفريق بين الشك واليقين، وعلى مقاومة ضغوط المرحلة، لتصدر حكماً ظل محفوراً في ذاكرة من حضروا الجلسة: «لا تزهق روحاً… من دون دليل».

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.