اخبار الكويت

علاء حسين… يوم لا ينفع الندم!

في الحلقة الثانية من سلسلة «رُفعت الجلسة»، يسلط الزميل المحامي د. حسين العبدالله الضوء على واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في التاريخ القضائي الكويتي، قضية علاء حسين، رئيس الحكومة المؤقتة التي شكلها النظام العراقي الغاشم إبان غزوه للكويت، تلك القضية التي تكشف عن لحظة مفصلية من تاريخ الكويت، في وقت كانت البلاد بأمس الحاجة إلى أبنائها للدفاع عن سيادتها، فإذا بأحدهم يختار أن يكون أداة بيد نظام غاشم، بقبوله رئاسة حكومته المؤقتة.

ففي مشهد لم تغب عنه رهبة المكان ولا ثقل الزمان، جلس قبل نحو 24 عاماً المدعو علاء حسين على كرسيه داخل قاعة المحكمة رقم 16، حيث واجه تهماً ثقيلة تتعلق بخيانة الوطن، وقد كان حسين، الذي نصبه نظام صدام حسين رئيساً لما سميت بـ «الحكومة الكويتية المؤقتة» خلال الغزو العراقي عام 1990، قد عاد إلى الكويت في 14 يناير 2000، بعد سبع سنوات من صدور حكم غيابي بإعدامه نتيجة إدانته في 6 تهم تتعلق بالتخابر مع النظام العراقي البائد.


عودة حسين فاجأت الجميع، إعلاماً وشعباً، وأثارت موجة تساؤلات عارمة، أبرزها لماذا يعود من صدر بحقه حكم بالإعدام؟ وما الذي دفعه إلى مواجهة مصير غامض؟ حينها صرح بأنه تلقى وعوداً من الحكومة الكويتية بمحاكمة عادلة، وأنه لم يكن سوى أداة مكرهة في يد النظام البائد، وتمسك دفاعه باستدعاء مدير المكتب الإعلامي السابق في لندن الذي أصبح فيما بعد وزيراً للإعلام وهو د. سعد بن طفلة.

«رفعت الجلسة» سلطت الأضواء مجدداً على القضية، التي كانت قد بدأت في تسعينيات القرن الماضي، حين قضت محكمة أمن الدولة عام 1993 ببراءة أعضاء الحكومة المؤقتة، ما عدا علاء حسين، الذي أُدين حينها بست تهم تتعلق بالتخابر والعمل لمصلحة النظام العراقي المحتل.

ومع بداية المحاكمة الجديدة عام 2000، وقفت هيئة قضائية مكونة من المستشار نايف المطيرات، والمستشارين عويد الرشيدي، والراحل عادل الكندري، أمام ملف قضائي معقد وحساس، لم يكن يحمل أبعاداً قانونية فقط، بل كان محملاً برمزية وطنية ومشاعر عامة يصعب تجاهلها.

خلال جلسات المحكمة، التي امتدت أكثر من عام ونصف العام حتى 2001، لم تبخل الهيئة القضائية بتوفير أي من الضمانات القانونية للمتهم، بل على العكس شكلت المحاكمة سابقة قضائية حين وافقت المحكمة على طلب الدفاع بالسفر إلى المملكة المتحدة لسماع إفادات شهود نفي لمصلحة علاء حسين، على رأسهم رئيس جهاز المخابرات العراقي السابق وفيق السامرائي، والمدير الأسبق لوكالة الأنباء العراقية سعد البزاز.

اصطحبت المحكمة، ممثلة في رئيسها وأمين السر ومحامي الدفاع، علاء حسين، في مهمة استثنائية إلى لندن، وعقدت هناك جلسة داخل مقر السفارة الكويتية، لكن المفارقة أن السامرائي لم يحضر، رغم التواصل المسبق معه، ومع ذلك سجل القضاء الكويتي سابقة غير معهودة تؤكد التزامه بالمحاكمة العادلة حتى في القضايا الحساسة.

في القاعة نفسها، تواصلت فصول المحاكمة، حيث استجوبت المحكمة الدكتور سعد بن طفلة، الذي كان آنذاك مديراً للمكتب الإعلامي الكويتي في لندن، بعدما ادعى علاء حسين أنه تلقى وعوداً من الحكومة الكويتية عبره، لكن بن طفلة نفى هذه المزاعم، مؤكداً أن حسين هو من بادر برغبته في العودة.



من جانب آخر، استدعت المحكمة أعضاء «الحكومة المؤقتة» الذين سبق أن برأت ساحتهم، فشهدوا بأن علاء حسين كان يتصرف كرئيس دولة، ورفض العودة معهم بعد التحرير، وأصر على إصدار الأوامر وكأنه ممثل للسلطة المطلقة، رغم علمه أن هذه السلطة جاءت من نظام بعثي محتل، كاشفين أنه كان يتلقى الأوامر من خلال المدعو عبد حمود سكرتير صدام حسين.

علاء حسين، في دفاعه، أصر على أنه كان مكرهاً وكان ضعيفاً، وأنه أجبر على أداء دوره السياسي في حكومة لم يخترها، فقد حاول محاميه، الزميل خالد عبدالجليل، تقديم صورة مختلفة عن موكله، موضحاً أنه تصرف تحت تهديد السلاح وأنه لم يكن صاحب قرار.

وفي الجانب الآخر، كانت النيابة العامة، ممثلة في المحامي العام آنذاك، المستشار سلطان بوجروه، تصوغ مرافعة وصفت بالتاريخية، تشرح فيها بالتفصيل كيف أدار علاء حسين منظومة الحكم المؤقت، وكيف ارتبط بنظام صدام حسين وشاركه في تنفيذ مخططه السياسي والعسكري.

جلسات المحاكمة التي كانت تُعقد بشكل أسبوعي دون انقطاع تقريباً، كانت تشهد حضوراً إعلامياً كثيفاً من صحف محلية ووكالات أنباء عالمية، بينها مؤسسات بريطانية، تابعت مجريات القضية عن كثب، لما تمثله من اختبار حقيقي لعدالة القضاء الكويتي في واحدة من أكثر القضايا إثارة بعد التحرير.

وبعد سلسلة طويلة من المداولات استمرت نحو 5 أشهر، قضت المحكمة بإعدام علاء حسين، إلا أن محكمة التمييز، برئاسة المستشار عبدالله العيسى، ألغت هذا الحكم وخففته إلى السجن المؤبد طوال حياته، مرجعة ذلك إلى سبب واحد أنه مواطن كويتي عاد طواعية إلى وطنه، ليواجه العدالة بنفسه.

تلك اللمسة الإنسانية لم تغيب مسؤولية المتهم، لكنها أظهرت جانباً آخر من عدالة القضاء الكويتي، الذي تميز كما أظهرته هذه القضية بالصبر، والمرونة، والتوازن بين صرامة القانون وروح الإنصاف.



اليوم، وبعد مرور أكثر من 25 عاما على حبسه، ما زال علاء حسين يقضي حكمه في عنبر أمن الدولة داخل السجن المركزي، أما القاعة التي حاكمته فتقف شاهدة على محاكمة غير مسبوقة، وذكرى قانونية ووطنية لا تُنسى، تجسدت فيها روح القضاء الكويتي وعدالته، وواجه فيها المتهم مصيره كما اختار: «على تراب الوطن، لا في منفى النرويج».

محاكمة علاء حسين لم تكن فقط فصلاً قانونياً في سجل العدالة الكويتية، بل كانت أيضاً مواجهة نفسية وتاريخية مع جراح الغزو وما خلّفه من ندوب في الذاكرة الوطنية، فقد مثّلت عودته إلى البلاد قراراً مفاجئاً، لكنه كشف عن تعقيدات الهوية والانتماء، وعن شعور قديم بالذنب أو الرغبة في التكفير عن الماضي.

حين وقف في قاعة المحكمة، كان علاء حسين يُظهر الأسى ويُكرر في تصريحاته: «أنا مظلوم… الدولة كلها لم تتحمل صدام، فكيف كنت أنا سأتحمله؟»، كما قال: «لو لم أكن أحب بلدي لما عدت… لقد كنت أعيش في النرويج، وكان بإمكاني أن أبقى هناك».

لكن القضاء لم يعتمد على مشاعر الندم وحدها، بل خاض في تفاصيل الوثائق والشهادات، واستمع لكلا الطرفين، ومنح للمتهم فرصة نادرة لإثبات براءته، وما بين نبرة التبرير وصرامة الاتهام، خرجت المحاكمة بنتيجة متوازنة: محاسبة عادلة، دون انتقام… وعدالة لا تتغاضى، لكنها أيضاً لا تتشفى.

وفي النهاية، بقيت قاعة المحكمة رقم 16، كما وصفها الصحافيون الذين غطوا تلك المرحلة، كأنها قطعة من الذاكرة الحية، لم تشهد على محاكمة شخص في قضية فحسب، بل على مرحلة كاملة من تاريخ الكويت.

المصدر: جريدة الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *