تعود جذور الأزمة الراهنة في شأن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله إلى العام 2012، حين وُقِّعت بين العراق والكويت بهدف تنظيم الملاحة البحرية في هذا الممر الحيوي الذي يفصل بين البلدين.
وجاءت الاتفاقية حينها في إطار محاولة لإعادة ترتيب الملفات العالقة لفترة ما بعد الغزو العراقي للكويت، وبدت كخطوة نحو تطبيع العلاقات الثنائية.
وفي عام 2014، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق حكماً يقضي بدستورية الاتفاقية، مُعتمدة على أن إجراءات المصادقة في مجلس النواب كانت سليمة في ذلك الوقت، غير أن المشهد القانوني تبدل تماماً بعد نحو عقد من الزمن.
ففي عام 2023، عادت المحكمة نفسها لتقضي بعدم دستورية الاتفاقية، بحجة أنها لم تحظَ بتصويت أغلبية الثلثين في مجلس النواب العراقي، وهو ما أثار جدلاً واسعاً، حول مبدأ استقرار الأحكام القضائية وتناقض المرجعيات القانونية العليا في الدولة. وعلى إثر ذلك، أُجريت محادثات على مستوى سياسي ودبلوماسي بين بغداد والكويت، لكنها لم تُفضِ إلى أي نتيجة حاسمة.
ومع بداية يوليو 2025، أحالت رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ملف الاتفاقية إلى مجلس النواب لحسم مصيرها، في خطوة بدت أقرب إلى التنصل من القرار السياسي المباشر، ولا سيما أن العراق مقبل على انتخابات عامة، ويُستبعد سياسياً وقانونياً أن يستطيع البرلمان المصادقة على الاتفاقية في هذا التوقيت الحرج.«الراي» تناولت القضية بالبحث مع بعض الباحثين.
«مُفاجئ أن تلغى الاتفاقية بعد إقرار دستوريتها بتسع سنوات»
منذر الحبيب: الخطوة تُقوّض المركز القانوني للعراق

• قرار المحكمة لا يُبطل الاتفاقية من الناحية الدوليةولا ينتقص من مشروعية تمسك الكويت بها
قال الباحث منذر الحبيب، إن اتفاقية الملاحة البحرية بين العراق والكويت، التي وُقّعت في العام 2012، تُعد واحدة من أكثر الاتفاقيات حساسية من الناحية القانونية والسياسية، مشيراً إلى أنها تستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 833 الصادر عام 1993، والذي حسم مسألة ترسيم الحدود بين البلدين، لا سيما في ما يتعلق بخور عبدالله.
وأوضح الحبيب أن «هذه الاتفاقية مرّت بجميع المسارات المؤسسية والدستورية داخل العراق، بدءاً من دراستها من قبل فريق حكومي متخصص، ثم موافقة الرئاسات الثلاث، فتصويت مجلس الوزراء والبرلمان، وصولاً إلى المصادقة من رئيس الجمهورية، قبل أن تُودع لدى الأمم المتحدة ومنظمة أعالي البحار في عام 2013».
وأضاف أن «المحكمة الاتحادية العليا كانت قد أقرّت دستوريتها في عام 2014، إلا أن المفاجأة جاءت في سبتمبر 2023 حين أصدرت المحكمة ذاتها قراراً بإلغاء الاتفاقية، وهو ما نصفه بـ(الزلزال القانوني) الذي أثار دهشة الأوساط السياسية والقانونية، وأحدث صدمة لدى الجانب الكويتي، كما طرح تساؤلات دولية حول مدى موثوقية العراق في التزاماته الدولية». وأكد أن إلغاء اتفاقية أُقرت ضمن إجراءات مكتملة، يُضعف المركز القانوني للدولة، لا سيما أن العراق خرج حديثاً من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، ليعود بهذا القرار إلى دائرة الشك. كما نقل عن رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، تحذيره من تداعيات هذا القرار، الذي قد يُستخدم لاحقاً للطعن في مئات الاتفاقيات الأخرى.
وأشار الحبيب إلى أن «القانون الدولي، خصوصاً اتفاقية فيينا للمعاهدات لعام 1969، يُلزم الدول بتنفيذ التزاماتها بحسن نية، ولا يتيح الانسحاب الأحادي منها، وقرار المحكمة لا يُبطل الاتفاقية من الناحية الدولية، ولا ينتقص من مشروعية الكويت في التمسك بها».
وأكد أن «اللجنة الأممية الخاصة بترسيم الحدود لم تضع حدوداً جديدة، بل ثبتت ما هو قائم على الأرض، استناداً إلى قرارات مجلس الأمن، وأن التصعيد العراقي يُعبّر عن أزمة داخلية لا عن خلاف قانوني، في وقت حافظت فيه الكويت على هدوئها الدبلوماسي مستندة إلى الشرعية الدولية».
«يهدد مصداقيته أمام المجتمع الدولي»
فيصل بوصليب: التراجع ينعكس سلباً على مشاريع العراق الكبرى

أشار الدكتور فيصل بوصليب إلى أن «العراق مُطالب باحترام اتفاقية تنظيم الملاحة الموقعة مع الكويت في 2012. وقرارات المحاكم العراقية شأن داخلي لا يؤثر على التزامات العراق الدولية».
وبيّن بوصليب أن «التراجع عن الاتفاقية يهدد مصداقية العراق أمام المجتمع الدولي، وقد ينعكس سلباً على مشاريعه الإستراتيجية، خصوصاً مشروع طريق التنمية المرتبط مع تركيا وقطر والإمارات عبر ميناء الفاو، فضلاً عن تطلعاته للمشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية».
وأضاف أن «الكويت تمتلك بدورها رؤية استراتيجية للتحول إلى مركز مالي وتجاري عالمي عبر مشروع مدينة الحرير، الذي يتضمن ميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان»، محذراً من أن «أي إخلال باتفاقيات الملاحة سيؤثر على هذه المشاريع في شمال الخليج».
وأشار إلى أن «العراق، الذي تجاوز مرحلة النظام البعثي، يدرك تماماً أن المتضرر الأول من إثارة الأزمات هو نفسه، قبل أي طرف آخر».
«أي محاولة لإلغاء الاتفاقية لا تُغيّر من وضعها القانوني»
حمد القحطاني: التشريعات الداخلية لا تعلو على الاتفاقيات الدولية

أكد أستاذ التاريخ في جامعة الكويت الدكتور حمد القحطاني، أن «اتفاقية تنظيم الملاحة في الخور، جاءت بناءً على قرارات الأمم المتحدة، وخاصة القرار 833، الذي رسم الحدود بدقة وباعتراف الطرفين، وصادق عليها البرلمان العراقي ومجلس الأمة الكويتي، وأُودعت في الأمم المتحدة لتصبح ملزمة دولياً».
وعبّر القحطاني عن استغرابه من المحاولات العراقية للتراجع عن الاتفاقية بدوافع سياسية وانتخابية، رغم أن المحكمة ذاتها أيدتها في 2014، قبل أن تعود في 2023 لإبطالها استناداً إلى مبررات شكلية داخلية. وأوضح أن «أي محاولة لإلغاء الاتفاقية لا تُغيّر من وضعها القانوني، وأن القانون الدولي لا يجيز الانسحاب منها من جانب واحد، كما لا تعلو التشريعات الداخلية على الاتفاقيات الدولية».
وأضاف أن «الكويت تعاملت دوماً بعقلانية، لكنها لن تتنازل عن شبر من أراضيها. وتشغيل ميناء مبارك الكبير يعكس التزام الكويت بتطوير مصالحها ضمن حدودها المعترف بها، وإثارة هذا الملف لا تخدم العراق وتُضعف الثقة الدولية به».
عبدالعزيز السيف: الإلغاء من طرف واحد لا يُعتد به دولياً

رأى الباحث عبدالعزيز السيف، أن «اتفاقية 2012 لم تكن لترسيم الحدود بل لتنظيم الملاحة فقط، وقد تمت المصادقة عليها في كلا البلدين، وأُودعت رسمياً في الأمم المتحدة».
وأشار السيف إلى أن «المحكمة الاتحادية ذاتها أيدت الاتفاقية في وقت سابق، فما الذي تغيّر الآن؟ ولماذا يُبطل قرار قانوني مستقر منذ أكثر من عشر سنوات؟»، مؤكداً أن «الإلغاء من طرف واحد لا يُعتد به دولياً. وكما أن العراق لا يقبل أن تفصل محكمة كويتية في أراضيه، فإن الكويت أيضاً ترفض تدخل القضاء العراقي في اتفاقيات دولية ملزمة».
وشدد على أن روابط التاريخ والدم بين البلدين يجب ألا تفسدها لحظة انفعال أو خطاب سياسي عابر، داعياً إلى تغليب صوت الحكمة، ومؤكداً أن من يثير الأزمات يدرك تماماً أنه المتضرر الأول منها.
المصدر: الراي