يُرتقب أن يشهد لبنان، بدءاً من الشهر المقبل وعقب انتهاء «الإجازة» القصيرة لمجلس الوزراء، تحولاتٍ محسوسةً في إدارة ملفاته الشائكة والعالقة، بحسب مسؤول مالي كبير ومعنيّ، وبما يشمل القضايا الاقتصادية والمالية التي يُفترض تحديد مساراتها قبيل مواعيد الاجتماعات الخريفية المتزامنة تقريباً لصندوق النقد والبنك الدولي من جهة، ومجموعة العمل المالي الدولي ( فاتف) من جهة موازية.
ومع الصدارة «المحجوزة» تلقائياً لملف سلاح «حزب الله» ومقارباته ذات الخصوصية محلياً وخارجياً، يحتلّ مشروع قانون الفجوة المالية، أولويةً ضمن قائمة الاستحقاقات التي تدهم مهمات الحكومة، ولا سيما لجهة المحددات والمندرجات والتوصيفات والمهل، والتي يُفترض تسريع وتيرة التزاماتها، بعد الاستجابة النيابية لمقتضيات إصدار تشريع التعديلات المطلوبة على قانون السرية المصرفية، وإلحاقه (في نهاية يوليو الماضي) بإقرار قانون إصلاح المصارف والمشروط سريان مفاعيله بصوغ واقرار قانون الانتظام المالي (الفجوة).
وليس سراً، وفق الرؤية السارية والمقرّرة لتدفق المدد الاقليمي والدولي، وبوصفه المُساهِم الرئيسي في الانتقال الى مرحلة «الانقاذ» المنشود، التلازم الحُكْمي بين مساري ْ«السلاح» والاصلاح. حيث لم تتردّد الموفدة الأميركية مورغان اورتاغوس العائدة إلى بيروت مع الموفد توماس براك في تحديد الشرطيْن اللازميْن للخروج من النفق: الأول حصرية السلاح بيد الدولة، والثاني شمولية الاصلاحات الهيكلية، ليتمكن لبنان من حيازة مفتاح تدفق المنح والاستثمارات.
وبَلْوَرَتْ الموفدة الأميركية العائدة الى الملف اللبناني مقاربتَها في مداخلة سابقة ولافتة حين قالت: «الاصلاحات التي نتحدث عنها مهمة جداً، وصندوق النقد ليس الخيار الوحيد. لديّ خطة كبيرة ورؤية قد تمكّن لبنان (ربما) من الاستغناء عن الصندوق. وإذا تمكنا من تحويله الى بلد استثمارات يمكننا استعمال أموال المستثمرين هنا، وتجنيبه المزيد من الديون».
وفي موازاة ذلك، لم يفت وكالة التصنيف الدولية ستاندرد أند بورز (S&P Global Ratings)، التنويه في أحدث تقاريرها عن لبنان، بأنّ قانون الفجوة الماليّة «لم يُقرّ بعد»، رغم أهميته البالغة بنهاية المطاف في تحديد طبيعة وحجم وتوزيع الخسائر في القطاع المالي، والذي يُعَدّ شرطاً أساسياً لتطبيق قانون إعادة هيكلة المصارف الذي أقره مجلس النواب نهاية الشهر الماضي، مع اشتراط أن تسري مفاعيله الأساسية بصدور قانون استعادة الانتظام المالي (الفجوة).
وفي اشارة جديّة الى بطء المعالجات المنشودة، أبقت الوكالة الدولية التصنيف الطويل والقصير الأمد للديون السياديّة اللبنانية بالعملات الأجنبيّة عند التخلّف الانتقائي عن الدفع، رغم مبادرتها المحدودة الى رفع تصنيف لبنان بالعملة المحليّة على المدى الطويل بثلاث درجات من «CC» إلى «CCC»، رَبْطاً بتحسّن قدرة الحكومة على إدارة دينها المحلّي بفضل الفوائض المحقّقة في الموازنة لعامين متتاليين والتقدّم المحرَز في الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي.
ويمثّل حَسْمُ الجدليات العقيمة والتوافقُ النهائي على توصيف الأزمة «النظامية» الشاملة التي تعصف بالبلاد منذ خريف 2019، المدخلَ الوحيدَ لتكريس منهجية موضوعية بعيدة عن التجاذبات الداخلية والشعبوية وتتيح مقاربةَ استحقاق إعداد مشروع قانون الفجوة المالية الذي يشكل بدوره المرتكز الحيوي لسائر المتطلبات التي تشترطها المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة لفتح قنوات التمويل والدعم للبنان.
ويَفرض «التحديثُ» في استراتيجية المقاربات، الانطلاقَ مجدداً من أولوية وضع ضوابط مُحْكَمَة لعملياتِ تدقيقٍ شاملة تُفْضي إلى توزيعٍ عادلٍ للمسؤوليات وحَمْل الخسائر المحقّقة على ثلاثي الدولة والبنك والجهاز المصرفي، واستطراداً وقف كل أشكال الإجحاف التي تصيب المودعين ومدخراتهم «المشروعة»، من مقيمين وغير مقيمين. وبالتالي الخروج من الزواريب الضيقة للكيديات الداخلية التي تستعيد زخمَها في تَمَوْضُعِ المرجعيات النافذة ومحاولات قضم أو نقل مهامٍ وصلاحياتٍ محورية وحسّاسة.
وتوجب تعقيداتُ الأزمة ونتائجها الكارثية على بنية الاقتصاد وقطاعاته كافة، الضرورةَ القصوى لأن تقرّ الدولةُ بمسؤوليتها وديونها، بما يشمل التزام مندرجات قانون النقد والتسليف، ولا سيما المادة 113 التي تُلْزِمُها بتغطية خسائر المصرف المركزي، ما يساهم لاحقاً في معالجة محفظة التوظيفات المصرفية لديه، والبالغة نحو 80 مليار دولار، ومصدرها بالمجمل، مدخرات وثروات المقيمين وغير المقيمين المودعة في البنوك.
وبخلاف ذلك، فان اعتمادَ أيّ خيارٍ يوصل الى تحييد أي طرف من الثلاثي من الموجبات، سيقود حتماَ، بحسب المسؤول المالي المعني، إلى تعميق الفجوات في ميزانيات الطرفين الشريكين وتبديد إمكاناتهما الافرادية والمجمّعة من دون بلوغ أي جدوى متوخاة، ومن ثم تضخيم الضرر اللاحق بالطرف الرابع، أي المودعين في البنوك، باعتبارهم الحلقة الأضعف. وهو ما يتناقض مع التعهدات الرئاسية والحكومية بعدم «شطب» المدخرات والعمل على توزيع عادل للمسؤوليات والأحمال المترتبة عليها.
ولذا يحذّر المسؤولُ المالي من تبعات الإمعان في منهجية «تفرّد» الحكومات باقتراح المعالَجات، وبما يشمل خصوصاً توزيعات الخسائر المقدّرة من قبلها سابقاً بنحو 72 مليار، ومن دون الإشارة حتى الى «فجوة» بيانات الدين العام الذي تَعدى حاجز 100 مليار دولار قبيل انفجار الأزمات، ولا الى موجبات قيودها الملتبسة في ميزانية البنك المركزي، وسحوباتها «المكشوفة» من أرصدته واحتياطاته بما يزيد عن 64 مليار دولار، موزَّعة في غالبيتها، وفق ما أكدته شركة التدقيق الجنائي الدولية ( الفاريز أند مارسال) على دعم سعر صرف الليرة وسلفات مؤسسة الكهرباء ووزارة الطاقة وسواها ودعم سلع استهلاكية في أوج فترة الانهيار النقدي.
وربما الأهمّ في مسألة الدين العام، أن نحو 60 في المئة منه كان محرَّراً بالليرة عشية الأزمة، وبمبالغ تناهز 91 الف مليار ليرة، أي ما يوازي بالسعر الرسمي نحو 61 مليار دولار، ليصبح بعد الانهيار النقدي السريع والمتواصل بحدة حتى صيف 2023، نحو مليار دولار فقط. علماً ان مجمل هذه الشريحة من الدين محمولة من البنك المركزي وصندوق الضمان الاجتماعي ومؤسسات، والبعض من «الجمهور» الذي وقع فريسة الاستقرار الوهمي للنقد.
المصدر: الراي