تتسارع دول المنطقة إلى الاستفادة من التحولات الاقتصادية لجذب الاستثمارات وتعزيز الثقة، ولذا فإن مكافحة الفساد لم تعد ترفا إداريا أو مجرد مقولة معلّبة تتناقلها ألسنة المسؤولين في التصريحات الصحافية والمحافل الدولية، بل أصبحت ضرورة وطنية تمسّ جوهر استقرار الدولة وقدرتها على التنمية.

مسألة «النزاهة» لم تعد اليوم قضية أخلاقية فحسب، بل قضية اقتصادية وأمنية وإدارية تحدد مستقبل الدول ومكانتها في المؤشرات الدولية.

فعلى الصعيد المحلي، قطعت الكويت شوطا مهما في بناء مؤسساتها الرقابية، لإدراكها أن مكافحة الفساد تمثّل حجر الزاوية في أي إصلاح إداري واقتصادي حقيقي في هيكل الجهاز الحكومي، ومن هذا المنطلق نجد أن الهيئة العامة لمكافحة الفساد (نزاهة) تواصل أداء دورها القانوني في حماية المال العام وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة.

وخلال الأشهر الأخيرة، أعلنت «نزاهة» سلسلة من الإحالات إلى النيابة العامة شملت أكثر من 70 شخصا خاضعا لأحكام الذمة المالية، بعد تأخّرهم في تقديم إقراراتهم في المواعيد القانونية، إلى جانب إحالات أخرى طالت أكثر من 30 موظفا حكوميا لذات السبب، كما أحالت الهيئة عددا من القياديين والإشرافيين في جهات حكومية مختلفة، من بينهم مسؤولون في وزارة الأشغال، على خلفية شبهات تتعلق بالتزوير وتسهيل الاستيلاء على المال العام، وأخرى تتعلق بتقديم بيانات مالية غير صحيحة في إقرارات الذمة.

جدية الهيئة

وهذه الإجراءات لا تعكس فقط جدية الهيئة في تطبيق القانون، بل تؤكد كذلك أن الكويت تسير في مسار مؤسسي واضح نحو تعزيز النزاهة والمساءلة وتحويل مكافحة الفساد من مجرد ردّ فعل بعد وقوع التجاوزات إلى سياسة وطنية مستدامة قائمة على الرصد المبكر والوقاية المؤسسية، وبناء بيئة تمنع حدوث مثل هذه الجرائم من خلال أنظمة رقابة فعالة وتعاون متبادل بين «نزاهة» والجهات الحكومية المختلفة.

أما على الصعيد الدولي، فقد أثمرت هذه الجهود نتائج ملموسة في المؤشرات الدولية، فتقدمت الكويت في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية من المرتبة 77 عام 2021 إلى المرتبة 72 عام 2024، وهو تحسُّن يعزى إلى فاعلية الهيئة وتزايد الوعي المؤسسي بأهمية الشفافية.

وتشير بيانات «نزاهة» إلى أن عدد الإحالات إلى النيابة، وإن ارتفعت، إلا أنها تعكس تحسُّنا في كفاءة الرصد والمتابعة ليس بالضرورة زيادة في حجم الفساد نفسه، بل في تنامي القدرة على كشفه ومواجهته.

أما من الناحية الاقتصادية، فتعدّ مكافحة الفساد أحد أهم مفاتيح تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فالمستثمرون اليوم قبل أن ينظروا إلى الحوافز أو الفرص التجارية، يراقبون درجة النزاهة في الإجراءات الحكومية واستقرار التشريعات المالية والإدارية، وكل خطوة تتخذها الدولة نحو تعزيز الشفافية تترجم إلى نقاط قوة في تصنيفها الائتماني وثقة المؤسسات المالية الدولية بها، كما أن رفع كفاءة الإنفاق العام وتوجيه الموارد إلى المشاريع الإنتاجية يعززان معدلات النمو ويحدّان من الهدر المالي.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل يمكن لأي دولة أن تتحدث عن تنمية مستدامة أو عن إصلاح اقتصادي وهي تغضّ الطرف عن الفساد الإداري أو المالي؟

الإجابة الصريحة هي أن مكافحة الفساد اليوم ليست ترفا إداريا، بل هي الشرط الأول لاستقرار الدولة، فكل دينار يُهدر بسبب الفساد هو في الحقيقة يُقتطع من مجالات حيوية ومهمة للمواطنين، سواء أم من التعليم أو الصحة أو البنية التحتية ولعل أزمة تطاير حصى الطرق أكبر شاهد على هذا الضرر في وقت كان يمكن أن يستفيد منها المواطن، وكل تجاوز إداري غير محسوب هو ثغرة في ثقة الناس بمؤسساتهم.

تاريخيا، الدول التي نجحت في كبح جماح الفساد لم تفعل ذلك بالملاحقة فقط، بل ببناء مؤسسات قوية، وتطبيق قواعد واضحة، وتكريس ثقافة المساءلة والمواطنة المسؤولة، واليوم مع جهود الهيئة، هناك فرصة لتكريس هذا الزخم والتحول عبر دعمها ومنحها البيئة القانونية واللوجستية الكاملة لتوسيع دائرة المتابعة والرقابة، بالتعاون مع مجلس الوزراء والجهات الرقابية والنيابة العامة.

ويتفق المراقبون على إن مسألة مكافحة الفساد لم تعد ترفا يمكن تأجيله أو التعامل معه كردّ فعل مؤقت، بل ضرورة استراتيجية لضمان استدامة الدولة وتعزيز قدرتها على تحقيق العدالة والتنمية، ما من شأن زيادة الثقة وبمؤسسات الدولة، الأمر الذي يعكس معه تكافؤ الفرص العادلة في الاستثمار وجذب المستثمرين، وهي ما يُقرأ من انعكاس ترتيب الكويت في المؤشرات العالمية.

 «أداء»… مشروع مبتكر

وصفت «نزاهة» مشروع «أداء» بأنه مبتكر لقيامه على فكرة نظام معايير اعتماد سنوية مرحلية، يضم مجموعة من المتطلبات الإدارية والتوعوية والتدريبية والحوكمية، موزعة بشكل تدريجي على 4 مستويات (يستغرق كل مستوى سنة للتنفيذ)، ويتطلب اجتياز الجهات المشاركة لكل مستوى استيفاء جميع المتطلبات المحددة وفق قوائم الاعتماد لكل مرحلة.

وتقدم «نزاهة» خلال سنوات المشروع للجهات كافة الدعم والاستشارات والتدريب والاستبانات ومواد التوعية اللازمة.

فيما يستهدف المشروع جميع مؤسسات القطاع العام في الدولة، ويساعد هذا المشروع الجهات على بناء منظومة إدارية وقائية تفاعلية تشجيعية تساهم في تفعيل مدونة السلوك الوظيفي وتطبيق معايير النزاهة وسبل الوقاية التي تحتويها ورفع الوعي لتعزيز الكفاءة المهنية والقيم الأخلاقية المؤسسية ضمن بيئة عمل احترافية.

وتكمن أهدافه في تفعيل متطلبات الحوكمة المؤسسية للقطاع الحكومي، وتفعيل القوانين الوقائية ذات الصلة، وتعزيز الشراكة المؤسسية وتبادل الممارسات المثلى بين الجهات الوطنية، ورفع مستوى الوعي حول أهمية مدونة السلوك الوظيفي، وإنفاذ مبادرات إستراتيجية الكويت لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد ذات الصلة، وتنفيذ متطلبات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ذات الصلة.

ووفق إحصائية «نزاهة» عن مشروع «أداء»، فقد بلغ عدد الجهات المشاركة 27 جهة، إضافة الى استفادة 66 ألف موظف عبر 280 نشاط توعية وتدريب، فيما بلغت زيادة وعي الموظفين في عام واحد نحو 25.8 بالمئة.

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.