يُعدّ الحكم الأخير الصادر عن القضاء الكويتي بتاريخ 20/11/2025 من الدائرة الجزائية/ 6 والقاضي بعدم تجريم نشاط تعدين العملات الرقمية (Crypto Mining)، لانعدام وجود النص الجزائي الذي يجرّم هذا الفعل صراحة خطوة مهمة في ترسيخ مبدأ الشرعية الجنائية والذي يقضي بأن:
* الأصل في الأفعال الإباحة.
* التجريم استثناء لا يجوز تقريره إلا بنص واضح وصريح.
* لا يمكن للقاضي إنشاء جرائم جديدة برأيه أو بالقياس.
* النصوص ذات الطبيعة الاستثنائية تفسر تفسيراً ضيقاً.
فقد أسست المحكمة قضاءها على المادة (32) من الدستور الكويتي التي نصت بجلاء على أنه:
«لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون»
وهو ما يعزز مبدأ الشرعية الجنائية، ويحول دون التوسع أو القياس في تفسير النصوص الجزائية، احتراماً لحرية الأفراد ومراكزهم القانونية.
وقد جاء هذا الحكم مؤكِّداً أن نشاط تعدين العملات الرقمية، باعتباره نشاطاً حديثاً لم يتناوله المشرع الجزائي الكويتي بنص صريح وواضح ومنضبط، مما يخرجه عن نطاق التجريم، ولا يجوز إخضاعه لأي من نصوص قانون الجزاء أو القوانين ذات الطبيعة الاستثنائية كقانون رقم 31 لسنة 1970 بشأن جرائم أمن الدولة الداخلي، طالما لم تتوافر إرادة تشريعية واضحة تحظر هذا النشاط أو تضع له نظاماً عقابياً خاصاً.
ويمكننا تلخيص قراءتنا لهذا الحكم الفريد من نوعه بالنقاط التالية:
أولاً: عدم انطباق المادة 15 من قانون رقم 31 لسنة 1970 على نشاط التعدين
لقد تناول الحكم ما أسندته النيابة العامة للمتهم من تطبيق المادة (15) من قانون أمن الدولة الداخلي، التي تُجرّم الأفعال الماسة ب «المصالح القومية العليا» للدولة أو بهيبتها المالية والاقتصادية وكان نصها: «يعاقب بالحبس المؤقت الذى لا تقل مدته عن ثلاث سنوات كل كويتي أو مستوطن في الكويت أذاع عمداً في الخارج أخباراً أو بيانات كاذبة أو إشاعات مغرضة حول الأوضاع الداخلية في البلاد، وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بالدولة أو هيبتها واعتبارها أو باشر أي نشاط من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد».
إلا أن الحكم الأخير جاء واضحاً في أن هذا النوع من الأنشطة الفنية أو التقنية، مهما كان أثره على استهلاك الكهرباء أو على تنظيم استخدام العقار الخاص، لا يرتقي إلى حد المساس بالمصالح القومية أو أمن الدولة، ولا يمكن أن يدخل ضمن الأفعال التي قصد المشرّع تجريمها عند إيراده النص السالف الذكر، وهي أفعال تتعلق بالمساس بسيادة الدولة واستقرارها المالي والسياسي، لا بإدارة مرفق عام أو استهلاك الطاقة الكهربائية بطريقة غير مرخصة.
وعليه، فإن محاولة النيابة العامة تكييف نشاط تعدين العملات الرقمية على أنه نشاط مضرّ بالمصالح القومية، يفتقر إلى السند القانوني ولا يستقيم مع فلسفة النص ومقصده.
ثانياً: ضبط حدود التجريم واستعراض شامل لصوره
يُلاحظ من الحكم محل التعليق أنّ المحكمة قد انتهجت منهجاً دقيقاً ومتوازناً في تفسير المادة (15) من قانون أمن الدولة الداخلي، إذ لم تقتصر في بحثها على الصورة التي أسندت إليها النيابة العامة الاتهام، وهي الصورة الثانية المتعلقة بمباشرة نشاط من شأنه الإضرار بالمصالح القومية العليا للبلاد بل ارتأت ضرورة استعراض النص بجميع صوره وتفنيد مكوّناته كاملةً قبل إسقاطه على الواقعة المعروضة.
فقد بدأت المحكمة تحليلها ببحث الصورة الأولى من صور السلوك المجرم في المادة، وهي المتعلقة بإذاعة الأخبار أو البيانات الكاذبة أو الإشاعات المغرضة في الخارج.
ورغم عدم تمسّك النيابة العامة بهذه الصورة فإن المحكمة وجدت لزاماً عليها بيان نطاقها وحدودها، مؤكدةً أن هذه الصورة تتطلب سلوكاً إعلامياً موجّهاً للخارج ينطوي على نشر معلومات كاذبة بغرض أو نتيجة محتملة لإضعاف الثقة بالدولة، وهو ما لم يكن مطروحاً في الواقعة.
وجاء تناول المحكمة لهذه الصورة ليظهر بجلاء أن النص موجَّه إلى أفعال ذات طبيعة سياسية أو دعائية تمسّ بسمعة الدولة وهيبتها، لا إلى أفعال تنظيمية أو اقتصادية داخلية.
ثم انتقلت المحكمة إلى الصورة الثانية، وهي محل الإسناد في الاتهام، فبيّنت أن عبارة «المصالح القومية العليا» لا تُفهم إلا في سياقها التشريعي الضيق، وأنها لا تشمل استهلاك الكهرباء أو أي نشاط اقتصادي اعتيادي، بل تُحيل إلى مصالح الدولة الجوهرية المرتبطة بكيانها السياسي والأمني والسيادي. وأوضحت المحكمة أن التعدين واستهلاك الكهرباء، وإن ارتفع، لا يرقى إلى مستوى الاعتداء على هذه المصالح، ولا يدخل ضمن نطاق التجريم الوارد في النص.
ويُبرز الحكم من خلال هذا النهج الشامل للتفسير أن المحكمة كانت حريصة على ضبط حدود التجريم ومنع انزلاق النص العقابي إلى مجالات لم يرد المشرّع تجريمها، التزاماً بمبدأ الشرعية وتفسير النصوص الجنائية تفسيراً ضيقاً.
كما يظهر من الحكم أن المحكمة رأت أن الاقتصار على الصورة الثانية دون فهمٍ شامل لبنية النص قد يؤدي إلى توسّع غير جائز في المسؤولية الجنائية، لا يتفق مع خطورة نصوص أمن الدولة وطبيعتها الاستثنائية.
وعليه، فإن أهمية الحكم تكمن، ليس فقط في انتهائه إلى عدم انطباق المادة (15) على الواقعة، بل كذلك في منهجيته التحليلية التي عالجت النص بأكمله، مُظهرةً أن الاتهام لم يجد سنده القانوني لا في صورته الأولى ولا بالثانية، وأن ما ورد من أفعال لا يخرج عن كونه نزاعاً تنظيمياً اقتصادياً في نطاق القوانين المالية والإدارية، لا في نطاق التشريعات المتعلقة بأمن الدولة.
ثالثا: النشاط محل الواقعة وإن نَظّمَته النظم واللوائح لا يرقى إلى مستوى الجريمة
جاء الحكم القضائي الأخير ليؤكد بجلاء أن ما نسب إلى المتهم من استخدام مفرط للطاقة الكهربائية داخل عقار سكني لا يشكّل في حد ذاته سرقة للتيار الكهربائي ولا اعتداءً جنائياً، طالما أن صاحب العقار ملتزم بسداد الفواتير المستحقة عليه وفق القواعد المقررة.
فالآثار الفنية الناشئة عن زيادة الأحمال الكهربائية أو ما قد ينجم عنها من إرهاق للشبكة العامة تظل بطبيعتها وأسبابها مسائل تنظيمية وفنية بحتة تختص الجهات الإدارية بمعالجتها من خلال اللوائح والقرارات والجزاءات غير الجنائية، ولا تمت بصلة إلى أحكام التجريم والعقاب.
وقد رسّخ الحكم بذلك مبدأً قانونياً بالغ الأهمية يتمثل في ضرورة التمييز الحاسم بين المخالفات الإدارية التي تخضع لقواعد التنظيم الإداري ولآليات الردع غير الجنائية، وبين الجرائم التي لا تقوم إلا إذا أسند المشرّع إليها نصاً صريحاً وواضحاً يحدد أركانها ويبين عقوبتها.
فالمخالفة الإدارية قد تُوجب غرامة أو قطع خدمة أو إجراء تنظيمياً، ولكنها لا تُنشئ جريمة، ولا يجوز بأي حال تحويلها إلى فعل مجرَّم عبر التوسع في تفسير النصوص أو اللجوء إلى القياس أو الاجتهاد.
ومن ثم، أكد الحكم أن إقحام النشاط موضوع الدعوى ضمن دائرة الجرائم الجنائية دون وجود نص يجرّمه إنما يمثل نوعاً من «اصطناع الجريمة» الذي يتعارض تعارضاً جوهرياً مع مبدأ الشرعية الجزائية المنصوص عليه في الدستور، ويخلّ بحدود سلطة الدولة في العقاب. فالقانون هو وحده الذي يحدد ما إذا كان الفعل جريمة، أم مجرد مخالفة إدارية، وأي محاولة لطمس هذا الفارق أو تسييل الحدود بينهما تُعد خروجاً على منهج التجريم المشروع وافتئاتاً على اختصاص المشرّع.
ويحمل هذا التمييز الذي تبنّته المحكمة أهمية بالغة لضمان عدم الانزلاق نحو تجريم أفعال لا يريد المشرّع اعتبارها جرائم، وعدم تحميل النصوص التنظيمية أو الجنائية ما لا تحتمله من معانٍ، حفاظاً على مبدأ سيادة القانون وصوناً للحقوق والحريات.
رابعاً: صدور الحكم في غياب المتهم ودور المحكمة في بسط رقابتها على سلامة التكييف القانوني
على الرغم من أن الحكم محل التعليق قد صدر غيابياً نتيجة عدم حضور المتهم لجلسات المحاكمة، فقد حرصت المحكمة التزاماً بواجبها الدستوري والقانوني على ممارسة رقابة دقيقة ومتعمقة على التكييف القانوني للواقعة المعروضة أمامها، متحققة من مدى سلامة النصوص التي أسندتها جهة التحقيق إلى المتهم، ومدى مطابقتها لحقيقة الفعل ولحدود التجريم التي رسمها المشرّع.
ويؤكد هذا النهج القضائي أن غياب المتهم لا يعفي المحكمة، ولا يقلل من مسؤوليتها، في فحص عناصر الجريمة والتثبت من توافر الركن القانوني، باعتباره الركن الجوهري الذي لا تقوم الجريمة بدونه. بل إن صدور الحكم غيابياً يضيف عبئاً أكبر على القضاء، إذ يوجب عليه إعمال رقابة أشمل وأعمق على مشروعية الاتهام، ضماناً لعدم اتخاذ إجراءات غيابية سنداً لتفسير خاطئ أو توسع غير جائز في النصوص الجزائية.
كما يجسد الحكم مثالاً واضحاً على قدرة القضاء الكويتي واستقلاله في التصدي لأي محاولة من جهات التحقيق لمد نطاق التجريم إلى أفعال لم يجرّمها المشرّع صراحة، ورفض تحميل نصوص القوانين ولا سيما النصوص الاستثنائية المتعلقة بأمن الدولة ما لا تحتمله من دلالات. فقد وقفت المحكمة بصلابة أمام محاولات تكييف نشاط تعدين العملات الرقمية على نحو يخالف حقيقة مدلول النصوص ويهدر مبدأ الشرعية الجنائية الراسخ.
ومن ثم، فإن الحكم رغم صدوره في غياب المتهم يمثل دلالة قوية على أن القضاء الكويتي يقوم بدوره الرقابي كاملاً، صوناً للحق في محاكمة عادلة، ودرءاً لكل احتمال بإعمال نص جنائي في غير مجاله، أو إسقاط وصف تجريمي على أفعال لا تدخل في دائرة التجريم، بما يحفظ مبدأ الشرعية ويؤكد أن الأصل في الأفعال الإباحة، وأن القيود الجنائية لا تُفترض ولا تُستنتج، وإنما تُستمد حصراً من نصوص تشريعية قاطعة الدلالة.
خلاصة التعليق
أخيراً… إن الحكم الأخير يكتسب أهميته لأنه:
1. أكد عدم تجريم تعدين العملات الرقمية لغياب النص الجزائي.
2. رفض تطبيق المادة 15 من قانون أمن الدولة على وقائع لا تمس المصالح القومية.
3. رسّخ القيود الدستورية على سلطة التجريم حمايةً لحرية الأفراد واستقرار النظام القانوني.
4. أثبت رقابة القضاء على الاتهامات حتى في الأحكام الغيابية.
5. يمهّد لضرورة تدخل المشرع لتنظيم نشاط التعدين تشريعياً بدلاً من لجوء السلطات لنصوص لا تنطبق عليه.
وبذلك يُعد هذا الحكم نموذجاً مهماً لاستقرار القضاء الكويتي على عدم التوسع في التجريم، ولحماية الأفراد من تحميل نصوص قانون أمن الدولة ما لا تحتمله من دلالات، وللتأكيد بأن الأصل في الأفعال الإباحة ما لم يجرمها القانون صراحة. كما أنه يؤسس لمبدأ بالغ الأهمية مفاده أن القضاء سيبقى الرقيب الأمين على ضمانات المواطنين، وسيستمر في التصدي لأي محاولة لاستخدام النصوص الجزائية خارج نطاقها الصحيح، إعمالاً للدستور وسيادة القانون.
وبذلك، يشكل هذا الحكم علامة بارزة في القضاء الكويتي المعاصر، خصوصاً في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة التي تتطلب تشريعات واضحة ودقيقة، بعيداً عن التكييفات الفضفاضة أو التوسع في التجريم دون سند تشريعي صريح.
المصدر: جريدة الجريدة
