… يَسقطون بلا سابقِ إنذار، تنطفئ شعلةُ الحياة في قلوبهم وهم في فورة شبابهم. رحيلُهم المفاجئ، يحرق القلوب، يُحْدِث صدمةً وذهولاً ليتحوّل غيابُهم روايةً حزينة يتناقلها الجميع بألمٍ وتأثُّر. بعدهم لا يعود شيئاً كما كان وسط العائلة الصغيرة، ويبقى الجرحُ نازفاً لا تبلسمه الأيام.

لماذا يُباغِتُ الموت الفجائي شباباً في مقتبل العمر من دون أن يُرْسِلَ إشاراتٍ تحذيريةً؟ هل هو قدَرٌ لا يمكن تَجَنُّبُه؟ أم أن الوعي والوقاية هما السبيل الى تفادي الكارثة؟ الطب يجيب عن هذه الأسئلة التي شكلت حتى الماضي القريب لغزاً محيّراً.


ورود تَذوي قبل أوانها

حوادث تتكرّر أو على الأدقّ بتنا نسمع عنها بشكل متزايد عبر الإعلام ووسائل التواصل. وفي الصيف الماضي، صُدمت «بلاد الأرز» لحادثين مأسويْين تجلّيا برحيل ملكة جمال لبنان للاغتراب ديما صافي عن عمر لم يتجاوز ثلاثين عاماً بعدما خَذَلَها قلبُها وفارقتْ الحياةَ إثر سكتة قلبية مفاجئة، وشاب في الـ 24 عاماً نتيجة أزمة قلبية باغتتْه فيما كان يمارس رياضة كرة السلة، وغيرها من فواجع تُسجَّل بين الحين والآخَر.

وفي كل مرة يَطرق الموتُ المفاجئُ للشباب في عمرٍ مبكّر بابَ عائلةٍ ويفجعها، تَستيقظ المخاوف والتساؤلات: ما أسبابه ومَن هم المعرّضون له؟

د. برنار أبي صالح، الاختصاصي في كهرباء القلب في المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت، يَشرح لـ «الراي» أن غالبية حوادث الموت المفاجئ عند الشباب تعود الى مشاكل في كهرباء القلب. ويقول: «القلب يحتاج الى الكهرباء ليقوم بمهامه، وأي خلل في كهربائه يؤدي الى تَسارُع في ضربات القلب التي قد تصل الى 300 ضربة فيتوقف حينها عن العمل».

ويوضح «نادراً ما تكون مشاكل القلب عند الشباب ناجمة عن خلل في الشرايين كما هي عند الأكبر سناً، إلا إذا كان ثمة مشكلة خُلُقية تجعل أحد الشرايين مثلاً في غير مكانه الصحيح. كما يمكن أن يعود السبب الى وجود سماكة في عضلة القلب أو ضعف فيها يؤدي الى خلل في كهرباء القلب».

ويؤكد د. أبي صالح «أن مشكلة الكهرباء في القلب هي جينية وراثية يرثها المريض من الأم أو الأب، كما يمكن أن يكون أول مَن يحمل هذا الجين في العائلة. ولذا من الضرورة بمكان في حال حدوث حالة وفاة مفاجئة لشاب أو طفل أن يتم إجراء فحوص طبية لإخوته وأخواته وللأهل وحتى الأقارب وأبنائهم، للتأكد من وجود هذا الجين أو عدمه عندهم، ويمكن حينها إجراء فحص جيني متطوّر لرصْد وجوده ومعرفة نوع الجين المُسَبِّب للمشكلة. وبهذه الطريقة تتم حماية أفراد العائلة الآخَرين الذين يمكن أن يكونوا حاملين لهذا الجين المسبّب لمشكلة الكهرباء وحمايتهم من إمكان الموت المفاجئ». ويضيف: «من هنا ومع زيادة الوعي حول الموضوع يمكن لمَن فَقَدَ ابناً أو ابنة في الماضي بسبب السكتة القلبية المفاجئة أن يعود اليوم لإجراء هذه الفحوص له وللأقارب أو حتى الأحفاد».

أكثر ما يؤسف في هذه المشكلة المتعلقة بكهرباء القلب أنها لا تعطي أي إشارات، ووفق ما يقال فإن الإشارة الأولى قد تكون الأخيرة أو القاتلة، إلا في حالاتٍ قليلة يمكن أن تكون هناك «إنذارات» لا يَنتبه لها الشخص. ولكن السؤال البديهي هل من عوامل تساهم في حصول السكتة القلبية كممارسة الرياضة القوية أو التعرض لصدمة عاطفية أو شحنة انفعالية قوية؟ يجيب د. ابي صالح أن «السكتة القلبية قد تَحدث في بعض المرات نتيجة جهد قوي أو انفعال شديد، ولكن في أحيان كثيرة قد لا يكون لها أي سبب محفّز، ونرى شباباً وحتى أطفالاً يموتون خلال نومهم. وما يُعرف بالموت الفجائي عند الأطفال هو نتيجة هذا الخلل في كهرباء القلب. فالمشكلة هذه قد تصيب الصغار، من عمر أشهر وصولاً إلى عمر الثلاثينات، لكن كشْفَها أصعب عند الصغار».

حتى لا تقع المصيبة

كَشْفُ الخلل في كهرباء القلب يَعتمد أولاً على إجراء تخطيط عادي للقلب ECG، وفي حال أَظْهَرَ التخطيطُ وجودَ خلل ما، أو في حال الشك يتم إجراء فحوص أخرى مثل الصورة الصوتية أو صورة بالرنين المغناطيسي أو تركيب جهاز لفحص ضربات القلب على مدى 24 ساعة Halter)). ولكن يبقى الأهمّ حُسْنُ قراءة التخطيط، إذ وحده الطبيب المختصّ بكهرباء القلب يستطيع إجراء قراءة دقيقة وصائبة كونه يعرف بالضبط عما يَبحث عنه. وقد يخطئ أحياناً طبيب القلب العادي في قراءة التخطيط ويَعتبره خالياً من أي مشكلة، فيما هو لم يلاحظ الخللَ الكهربائي الذي يظهره التخطيط. وهنا لا بد من الإشارة الى وجود أكثر من عشر أنواع خَلل مختلفة مرتبطة بكهرباء القلب.

بالعودة الى الصغار يؤكد الطبيب المختص د. أبي صالح أن الكشفَ عن مشكلة الكهرباء أصعب في عمر صغير لأن التخطيطَ لا يكون دقيقاً وحاسماً كون القلب لم يَكتمل نموه بعد «ولذا في حال الشك أو وجود سوابق عائلية لا بد من إعادة التخطيط كل سنة أو أكثر حتى بلوغ عمر الـ 12 وحينها يمكن القول أنه يصبح أدقّ».

لحسن الحظ أن المصابين بخلل في كهرباء القلب والذين تَصل نسبتهم وفق الملاحظات السريرية سواء في لبنان أو العالم إلى ما يقارب 31000 ليسوا كلهم معرّضين للموت الفجائي إذ إن نسبة الوفاة هي 1100000 لكن الإصابة ترفع من خطر الموت الفجائي. أما العلاجات فلا تعني فقط الإجراءات الجراحية ويحدّدها الطبيب بالآتي: * أولاً تغيير العادات الحياتية مثل عدم ممارسة رياضة عنيفة، عدم تناول كميات كبيرة من الكافيين أو تناول أدوية معينة.

* ثانياً تناول أدوية خاصة لعلاج الخلل الكهربائي.

* ثالثاً إجراء عملية جراحية بسيطة تتم من خلالها معالجة مشكلة الكهرباء في القلب عبر كيّ نقطةٍ تمرّ عبرها الكهرباء وتُعرف باسم ablation وأخيراً تركيب بطارية لتنظيم كهرباء القلب.

هذه العلاجات جميعها تُعتبر وقائيةً لتجنّب حالة الموت الفجائي. ولكن هل يساهم نمط الحياة العصري بكل ما فيه من ضغوط وتلوّث وتدخين وأطعمة غير صحية في زيادة حالات الموت المفاجئ كما بات ملاحظاً في وقتنا هذا؟ يقول د. برنار ابي صالح «لا شك ان نمط الحياة السيء له تاثير ولكن ليس بنسبة عالية كما هو الأمر بالنسبة لأمراض الشرايين، وهو حتماً لا يساعد لكنه ليس سبباً رئيسياً. فالضغط العصبي او الانفعالي يمكن أن يشكل حافزاً، وانفجار قوي مثلاً كما حصل في انفجار المرفأ قد يلعب دور المحفز للسكتة القلبية. ويبقى الوعي والمعرفة هما الأهمّ للوقاية وليس التخويف والسرسبة»، نافياً المقولة التي باتت متداولة بشدة بين الناس حول كون لقاحات «كوفيد» تلعب دوراً في زيادة العديد من المشاكل القلبية وبينها مشكلة كهرباء القلب.

جمعية قلب ريمي ربيز حوّلت الموت حياة

تجربة مريرة عاشتْها السيدة سيلفيا ربيز مع وفاة وحيدها ريمي ربيز بشكل مفاجئ صاعق أثناء خروجهم ذات مساء لتناول العشاء خارج البيت. تجربة حفرتْ عميقاً في قلبها وتركتْ ندوباً لا تلتئم. لكنها لم تشأ أن يكون رحيل ابنها حادثةً عابرةً يَطويها الزمن. ومن صميم ألمها ووجع عائلتها أرادت أن يكون ريمي فداءً عن كثيرين من الشبان والشابات وأن يتحوّل اسمه الى جمعية إنسانية تُعنى بنشر الوعي حول مشكلة الخلل في كهرباء القلب وتقديم كل مساعدة مطلوبة لإنقاذ حياة هؤلاء الشبان والشابات والأطفال.

رغم مرور أعوام على رحيل ابنها، لا يزال صوت السيدة ربيز يحمل شذرات ألمٍ وحزنٍ تبدو جليةً لمَن يسمعها، لكن اندفاعها للحديث عن نضال الجمعية وما تقوم به من حملات في الجامعات والمدارس والمستشفيات وحتى على الصعيد القانوني للتوعية حول هذه المشكلة وكشْفها ومساعدة مَن يتعرّض لسكتة قلبية قبل أن تقع الواقعة، يعيد إليها الحماسة ويحيي ما تبقى من قلبها.

وتقول السيدة ربيزلـ «الراي»: «المسار الطبيعي للأمور أن يدفن الأبناء آباءهم وليس العكس. رحيلُ الأبناء صدمةٌ أقسى من أن تُحتمل ولا سيما إن كان الرحيل في عمر مبكر وبشكل مفاجئ صادم. جمعية قلب ريمي ربيز وُجدت لنشر الوعي حول هذه المشكلة التي لا يزال الكثيرون يجهلون أسبابها أو حتى وجودها. نحن نقدّم تخطيطاً مجانياً للقلب للشباب في إحدى المستشفيات البيروتية في كل آخِر أسبوع ويقوم الأطباء المختصون بكهرباء القلب الأعضاء في الجمعية بقراءة هذه التخاطيط لرصد وجود مشكلة ما في الكهرباء، وعندها يتم الاتصال بالحالات التي تم رصدها أو الشك بها لإجراء تخطيط ثان يؤكد ما تم الاشتباه بوجوده، وكذلك الاتصال بالأهل ليَعملوا بدورهم على إجراء التخطيط كون هذه المشكلة وراثية، ولا شك في أن ثمة أفراداً آخَرين في العائلة يَحملون بدورهم الجين المسبّب لها». وتضيف: «بالتخطيط نحن قادرون على إنقاذ ليس فرداً واحداً فحسب بل أفراد عديدين من عائلته. بعد موت ابني أجريْنا فحصاً جينياً لمعرفة الجين المسبّب للخلل الكهربائي في قلبه، وبعده بحثنا عنه لدى أفراد عائلتنا فتبيّن أن ابنتي تحمل هذا الجين وقد نقلتْه أيضاً لابنها واستطعْنا من خلال المتابعة إنقاذهما من احتمالية مؤلمة».

في بيروت كما في سائر المناطق اللبنانية تقوم الجمعية بالتوعية حول أسباب الموت المفاجئ عند الشباب الصغار في السنّ وعن الفارق بين السكتة القلبية وبين الأزمات القلبية الأخرى، كما تقوم بتدريب الأساتذة والطلاب وآخَرين على تقديم الإسعافات الأولية الضرورية في حال تَعرّض شاب أو شابة أمامهم لسكتة قلبية لأن الاستجابة السريعة هي السبيل الوحيد لإنقاذ هؤلاء. وأهمّ هذه الإسعافات، عملية إنعاش القلب يدوياً CPR التي يمكنها أن تنقذ حياة المُصاب في انتظار وصول سيارة الإسعاف لنقله الى المستشفى. ففي هذه الحالة كل دقيقة مهمة لأن اي توقف للقلب لمدة دقيقة واحدة يساهم في خسارة 10 في المئة من الدماغ او حدوث تلف في الأعضاء الحيوية.

وكذلك عملت الجمعية على نشر أجهزة إنعاش القلب الكهربائية Defibrillator في المستشفيات وأمكنة أخرى لاستعمالها لإنعاش القلب وإعادة إحيائه، وساهمتْ في تغيير مادة من قانون العقوبات بحيث بات يحق لأي شخص أن يبادر الى إسعاف أو إنعاش شخص مصاب دون أن يعرضه ذلك لعقوبات قانونية. واليوم تطالب الجمعية وتعمل على جعل تخطيط القلب إجبارياً بعد سن الثانية عشرة أو بعد إنهاء الطعوم. لكن المشكلة الأساسية تبقى في عدد الأطباء المختصين بكهرباء القلب والذين يمكنهم قراءة نتائج التخطيط بدقة وصوابية.

وتسعى الجمعية ايضاً مع المستشفيات للتوعية حول ضرورة إجراء تخطيط للقلب عند الشباب قبل أن ينخرطوا في رياضاتٍ تحتاج الى مجهود كبير، وهو الأمر الذي أصدرت بشأنه الجامعة الأميركية توصية. كما تؤكد أهمية اتباع نمط حياة صحي والابتعاد عن المحفزات التي يمكن أن تسبب السكتة القلبية رغم أن هذه الأخيرة لا تعطي إشارات واضحة.

المصدر: الراي

شاركها.