في صباح الثاني من أغسطس 1990، استيقظت مدينة الكويت على هدير دباباتٍ تدكّ أحلامها. لم يكن يوما عادياً، بل كان يوماً غيّر وجه التاريخ.

أنا المصور الصحافي رائد قطينه، عايشت ذلك الكابوس مع زميلي نبيل قطينه، وكنّا من أوائل من وثّقوا طلائع القوات العراقية وهي تغزو شوارع الكويت، كأنها تعيد كتابة سطور الظلم بأحرف من نار.

كاميراتنا كانت أسلحة مقاومة وشهادات للتاريخ… والغزاة يمنعون صورنا لإخفاء جرائمهم

الجرأة في مواجهة الغزو

لم ننتظر داخل غرفنا الآمنة، حملنا كاميراتنا، وخرجنا إلى الشارع، حيث كانت المدينة تتحول إلى ساحة حرب. عند دوار قصر السيف وسط مدينة الكويت، استوقفنا جنود عراقيون يبدو عليهم الإرهاق والتعب ومدججين بالأسلحة وصادروا كاميراتنا، وقد كتبت لنا رحمة الله النجاة بأنفسنا وببعض الأفلام التي كنا نحتفظ بها في ملابسنا… عدنا لمقر جريدة الرأي العام، فوجدناه مغلقا. وبعد جهد وعناء استطعنا الحصول على كاميرا وتوجهنا إلى كيفان.

في دوار كيفان، رأينا المشهد الأكثر إيلاماً: عشرات الكويتيين المسلحين ببنادقهم البسيطة، يقفون أمام مخفر الشرطة، مستعدين لمواجهة جيشٍ جرار. كانت نظراتهم تقول: «هذه أرضنا»، بينما كانت الدبابات تقول: «هذه غنيمتنا». التقطت عدستي تلك اللحظات لحظات الغدر والبطولة حيث تحولت شوارع الكويت الهادئة إلى جبهة قتال.

قوانين الكون لا تتغير… الظلم قد يقوى لكنه لا يدوم والباطل قد يعلو ولكن لا يثبت

7 أشهر في حضن العائلة الكويتية

بقيت في الكويت طوال فترة الاحتلال، لم أستطع رؤية أهلي، ولم أعرف إن كنت سأعود إليهم يوما. لكني وجدت العزاء في عائلة كويتية آوتني كواحد من أفرادها. عشت معهم الخوف، والجوع، والقهر، لكنني أيضا عشت الكرامة التي لم تُكسَر. الكويتيون علّموني أن الاحتلال قد يسلب الأرض، لكنه لا يسلب الإرادة.

اليوم، بعد سنوات، مازالت صوري التي التقطتها في ذلك الصباح الدامي شاهدة على وحشية الاحتلال، وعلى شجاعة شعب رفض أن ينحني.

أتذكر أنني كنت أرسل الأفلام التي صورتها أنا وزميلي نبيل عبر بعض الأشخاص الذين كانوا يغادرون الكويت برّاً بطرق تحوطها المخاطر، ولم أعلم حتى الآن أين تلك المسودات التي أرسلتها للحكومة الكويتية في المنفى، ولكن الكثيرين من الزملاء لاحقاً حين كنت أذكر لهم طبيعة الصور، كانوا يقولون لي إنهم شاهدوها في صحف كثيرة حول العالم.

في زحمة الرصاص والرعب، لم تكن كاميراتنا مجرد أدوات لتوثيق الحرب، بل كانت أسلحة مقاومة. أنا وزميلي نبيل قطينه كنا نعلم أن كل لقطة نلتقطها قد تكون شهادة للتاريخ، أو سلاحا في معركة تحرير الكويت. لكن الأخطر من التقاط الصور كان تهريبها خارج البلاد المحتلة، حيث كانت السلطات العراقية تبحث عن أي دليل على جرائمها لتحرقه.

المخاطرة بنقل الأفلام سراً

في الأسابيع الأولى للغزو، كانت الاتصالات مقطوعة، والحدود مغلقة، لكن بعض الكويتيين والأجانب كانوا يغامرون بالخروج عبر طرق صحراوية خطيرة. أذكر أنني سلّمت أفلاماً مليئة بالصور لعدد من الأشخاص الذين كانوا يغادرون الكويت براً إلى السعودية أو الأردن.

بعضهم كانوا صحافيين، وآخرون متعاطفون مع القضية الكويتية، كنت أخفي الأفلام داخل أغلفة كتب، أو داخل جيوب ملابسهم الداخلية، وأقول لهم: «إذا وقعتم في الأسر، دوسوا على الأفلام واهرسوها قبل أن يجدها الجيش العراقي».

أفلامنا الحافلة بجرائم الغزو كنا نهرّبها مع مغامرين بالخروج براً إلى السعودية أو الأردن

الصور التي شاهدها العالم ولم أشاهدها أنا!

تساءلت دائماً: هل وصلت تلك الصور إلى الحكومة الكويتية بالمنفى في السعودية؟ إن جزءاً منّي ظل حزينا لأنني لم أعثر على أرشيفي الشخصي عن تلك الفترة. ربما ضاع في الصحراء، أو ربما لا يزال محفوظا في مكان ما، ينتظر من يكتشفه.

لم أكن أعرف هويات معظم هؤلاء الأبطال المجهولين، ولم أتأكد إذا ما وصلت الصور إلى وجهتها. كل ما كنت أعرفه هو أنني لم أعد أرى تلك الأفلام أبداً. يوما ما قال لي زميل في «الأنباء»: «كنّا نعرف أنك أنت مَن صور تلك الصور»، لكن كان من غير الممكن أن نبوح بأن فلسطينيا هو مَن صورها! هل قال الحقيقة أم جاملني؟ لا أعلم.

الذاكرة أقوى من الدبابات

اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود، مازلت أتذكر كل لقطة كما لو كانت أمام عيني. الرعب في عيون الأطفال، دموع الأمهات، صمود الرجال عند دوار كيفان. وحتى لو ضاعت الصور الجسدية، فإنها حُفرت في ذاكرة من عاشوا تلك الأيام.

والكويت، التي وقفت كالجدار الصلب، تثبت دائما أن الحق لا يُدفن، مهما حاول الطغاة، كما أتذكر كتيبة الحرس الأميري داخل قصر بيان، التي كانت لا تزال تقاتل، وأشلاء الجنود العراقيين القتلى منتشرة على الدائري الخامس مقابل القصر.

أو تلك السيارة المرسيدس المميزة جدا التي تقف على دوار البدع وليس بها أحد، وفي مقابلها جنود عراقيون كثر على طول شاطئ البلاجات، أو تلك الهليوكبتر العراقية المحترقة في حولي.

بين الكويت وغزة… سطور من الألم والأمل تكتبها عدسة التاريخ

يا له من قدر قاسٍ يجمعنا نحن شهود الظلم! في الكويت، كنا نهمس بالصور خوفاً من سطوة الجندي الغاشم، ونخبئها بين طيات الملابس وكأنها أوراق حُبّ محرّمة. اليوم، في غزة، يخبئون لحظات الرعب في زوايا هواتفهم المحمولة، بينما العالم ينظر ببرود!

كم تشبه دموع الأمهات هناك دموع أمهاتنا! وكم تشبه صرخات الأطفال صرخات أطفالنا! لكننا نعلم، كما علّمتنا الكويت، أن كل هذا الظلام لابُد أن ينجلي.

لقد مررنا بنفس المشهد المرعب: الدخان الأسود الذي يحجب الشمس، طوابير الجوعى أمام المخابز، أصوات الانفجارات التي تقطع أنفاس الليل. لكننا عرفنا أيضاً طعم النصر حين عادت الشمس لتشرق على شوارع الكويت حُرّة، وسيعرفون هم أيضاً هذا الطعم الحلو، لأن قوانين الكون لا تتغير: الظلم قد يقوى، لكنه لا يدوم… والباطل قد يعلو، لكنه لا يثبت.

عدستي التي التقطت آلام الكويت، أراها اليوم تعود للحياة في كل صورة تخرج من غزة. نفس النظرات الحائرة، نفس الأيادي الممدودة طلباً للنجدة، ونفس الإرادة التي لا تنكسر. كم هو مؤلم أن نرى التاريخ يعيد نفسه! ولكن كم هو جميل أن نؤمن بأن النهاية ستكون مشرقة كما كانت لنا.

لقد علّمتنا الكويت أن القوة الحقيقية تكمن في تلك اللحظات التي يظن فيها الظالم أنه انتصر، بينما تكون بذور سقوطه قد زُرعت في قلب كل طفل رأى دبابة تدمّر بيته، وفي قلب كل أم حملت رغيف خبز كأنه كنز، وفي قلب كل مصور صحافي رفض أن تسقط عدسته من يده، رغم الرصاص.

اليوم، عندما أرى صور غزة، لا أرى فقط المأساة، بل أرى المستقبل أيضاً. مستقبل سيكتبه الناجون كما كتبناه نحن. مستقبل سيروي للأحفاد كيف انتصر الحب على الكراهية، والإنسانية على الوحشية، والحياة على الموت، لأن الظلام أيها الأصدقاء لا يمكنه أن يُخفي الفجر إلى الأبد.

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.