في ظل التزايد الملحوظ لحوادث المرور على الطرقات، وما يترتب عليها من خسائر بشرية ومادية، ومع استمرار تكدّس القضايا المرتبطة بها في أروقة المحاكم، برزت الحاجة إلى إيجاد معالجات قانونية جديدة تواكب التطورات، وتضمن حق الدولة في الحد من السلوكيات المرورية الخاطئة وردع المخالفين، دون حبسهم مع المجرمين من تجار المخدرات وغيرهم، بما يمنحهم فرصة لتقويم سلوكهم. ومن هنا جاء قرار النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، الشيخ فهد اليوسف، الذي تضمن إضافة مادة جديدة برقم «212 مكرراً» إلى اللائحة التنفيذية لقانون المرور رقم 67 لسنة 1976، لتفتح هذه المادة الباب أمام المحاكم في استبدال عقوبة الحبس في بعض قضايا جنح المرور بعقوبات بديلة، مثل خدمة المجتمع أو الالتحاق ببرامج توعية تأهيلية، أو إصلاح الضرر الناشئ عن الجريمة.
تمنح المادة الجديدة التي تمت إضافتها برقم «212 مكرراً» إلى اللائحة التنفيذية لقانون المرور رقم 67 لسنة 1976، الحق للقاضي في تكليف المحكوم عليه بتنفيذ الأعمال المخصصة للمنفعة العامة دون مقابل، على أن يراعى في العمل توافقه مع ظروف المحكوم عليه، وبموجبه تتولى الإدارة العامة للمرور تنظيم البرامج ومحاضرات التوعية والتأهيل والتدريب المنصوص عليها في هذه اللائحة بالتعاون مع الجهات الحكومية أو الخاصة وجمعيات النفع العام.
«» استطلعت آراء عدد من المختصين عن هذا القرار، واتفقوا جميعاً على أهميته ودوره في حفظ حق الدولة تجاه مرتكبي المخالفات المرورية الجسيمة من جهة، وإصلاح سلوك الأشخاص المخالفين دون الزج بهم في السجون مع المجرمين من تجار المخدرات وغيرهم، من جهة أخرى، وما ينتج عن ذلك من سلوك إجرامي.
الرميضي: الحكمة من العقوبات إصلاح سلوك الشخص المُدان لا الانتقام منه
الرميضي:«العقوبات البديلة» تشرك المدانين في أعمال تنفع المجتمع وتقوّم سلوكهم
في هذا السياق، قال أستاذ القانون في جامعة الكويت، د. عبدالله الرميضي: «إن الحكمة من العقوبات التي يقررها قانون الجزاء هي إصلاح سلوك الشخص المدان، بارتكاب جريمة وليس الانتقام منه، فالهدف الذي يسعى له المشرع دائماً هو توفير الأمان للمجتمع بأسره».
وأضاف الرميضي: «إذا ما طبّقنا هذا القول على نظام العقوبات البديلة، نجد أن القرار حقق الهدف المرجوّ من وراء هذا النظام، بإشراك الأشخاص المدانين في أعمال تنفع المجتمع أولاً، كما أنها من ناحية أخرى تقوّم سلوكهم، ولا سيما إذا كان منهم من هو آتٍ من بيئة نظيفة، ولكن في لحظة طيش ارتكب فعلاً يُعاقب عليه القانون، فمثل هؤلاء الأفراد من الممكن إصلاح سلوكهم وإعادتهم لجادة الصواب بعيداً عن العقوبات التقليدية المتمثلة في الحبس والغرامة».
وتابع الرميضي: بل إن مثل هذه العقوبات قد تأتي بنتائج عكسية، حيث قد يختلط المحبوس مع أصحاب السوابق في السجن، وبالتالي يكتسب خبرات غير جيدة، ومن ثم تسوء سلوكياته، مؤكداً أن إقرار مثل هذا النظام قد يقوّم سلوك الكثيرين ويساعدهم في الانخراط بالمجتمع بصورة طيبة من خلال الأعمال التي يقدمونها له.
السويفان: خطوة تعيد الاعتبار للجانب الإصلاحي في العقوبة وتمنح المخالف فرصة للمراجعة الذاتية
السويفان: لها انعكاسات إيجابية عديدة… أبرزها تقليل الاكتظاظ في المؤسسات الإصلاحية
ووسط إشادة أمين سر جمعية المحامين الكويتية، المحامي خالد السويفان، بصدور القرار المتعلق بتطبيق نظام العقوبات البديلة، فقد اعتبره تطوراً جوهرياً في الفكر التشريعي والعدلي في دولة الكويت، بما يواكب التوجهات العالمية الحديثة التي توازن بين الردع والإصلاح.
وأكد السويفان أن العقوبات البديلة تمثّل نقلة نوعية في السياسة الجنائية، حيث تقوم على إصلاح الضرر وخدمة المجتمع، بدلاً من الاقتصار على عقوبات الحبس أو الغرامة، مشدداً على أن هذا التوجه يُعيد الاعتبار للجانب الإصلاحي في العقوبة، ويمنح المخالف فرصة عملية للمراجعة الذاتية وتصحيح السلوك، من خلال أعمال تخدم المصلحة العامة.
وأضاف أن القرار له انعكاسات إيجابية عديدة، أبرزها تقليل الاكتظاظ في المؤسسات الإصلاحية، وتخفيف الضغط عن المنظومة العقابية، وتوظيف طاقات الأفراد في أعمال نافعة، والمشاركة في حملات التوعية والحملات الصحية والخدمات العامة، مشيراً إلى أن «القرار يسهم كذلك في تقليل الأضرار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على عقوبة الحبس، التي تطال أسر المحكومين ومحيطهم».
وأشار السويفان إلى أن القرار يعكس رؤية متقدمة تنسجم مع أهداف الدولة في بناء منظومة عدلية أكثر عدالة وإنصافاً وإنسانية، مشدداً على ضرورة متابعة وتقييم تطبيق هذه العقوبات لضمان تحقيق مقاصدها، من دون الإخلال بجوهر العدالة أو هيبة القانون.
الشبو: لها مردود إيجابي على الفرد والأسرة والمجتمع على حد سواء
الشبو: الجرم في قضايا المرور لا يتعدى القضايا الخطيرة وفي الحبس ضرر لهم
إلى ذلك، أكد مدير إدارة الحضانة العائلية في وزارة الشؤون الاجتماعية سابقاً، د. سعد الشبو، أن العقوبات البديلة في قضايا المرور لها مردود إيجابي على الفرد والمجتمع على حد سواء، خصوصاً أن الجرم لا يتعدى القضايا الخطيرة التي يكون السجن فيها رادعاً، مضيفاً: «من خلال عملنا ودراستنا ومقابلاتنا لبعض الحالات، وجدنا أن كثيراً ممن تم سجنهم على قضايا صغيرة خرجوا من السجن وهم أكثر انحرافاً مما كانوا عليه، بسبب احتكاكهم مع مساجين لهم تاريخ طويل في الانحراف والإجرام».
وأوضح أن هناك إيجابيات اقتصادية واجتماعية وسلوكية للعقوبات البديلة، أبرزها تخفيف اكتظاظ السجون، حيث تساهم في تقليل الضغط عن المؤسسات الإصلاحية، وإعادة الإدماج الاجتماعي عبر المساهمة في إعادة تأهيل الجناة ودمجهم في المجتمع، والحد من التكاليف التي تعتبر أقل من عقوبة السجن، فضلاً عن دورها في تعزيز العدالة التصالحية، حيث تتيح تعويض المجتمع عن الأضرار الناتجة عن الجريمة.
إلى ذلك، أكد الأستاذ في كلية الطب جامعة الكويت، د. حبيب أبل، أن نظام العقوبات البديلة يُعد تجربة جديدة على الكويت، وقد يسهم في رفع الوعي لدى المخالفين ومنع تكرار الأخطاء، موضحاً أن القوانين ينبغي ألا تقتصر على جانب الردع فقط، بل يجب أن توجّه نحو تعليم المخطئ الطريق الصحيح، بما يسهم في إعادة دمجه في المجتمع.
أبل: تجربة جديدة على الكويت تسهم في رفع الوعي لدى المخالفين ومنع تكرار الأخطاء
أبل: العقوبات ينبغي ألّا تقتصر على الردع… بل تعلم المخطئ الطريق الصحيح
وأشار أبل إلى أن بعض القوانين المرورية الحالية تُعتبر متساهلة، حيث تفرض عقوبات بسيطة على مخالفات قد تخلّف آثاراً كبيرة على الأفراد، الأمر الذي قد يشجّع على تكرارها بدلاً من الحد منها.
وأضاف من الناحية الصحية، أن الحوادث المرورية لا تقتصر آثارها على الإصابات الجسدية المباشرة فحسب، بل تمتد إلى اضطرابات نفسية طويلة الأمد للضحايا وأسرهم، مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. كما أن الأعباء الصحية الناجمة عن هذه الحوادث تضع ضغطاً إضافياً على المنظومة الطبية في البلاد.
وشدّد على أن المسؤولين عن قيادة القطاعات في وزارة الداخلية مطالبون بأخذ هذه التحديات بعين الاعتبار، والعمل على تحليل المشكلات المرورية واقتراح حلول أكثر فعالية لحماية المجتمع، بما يحدّ من الخسائر البشرية ويخفف الأعباء الصحية والاجتماعية. كذلك أصبح لزاماً على وزارة الداخلية تحديث قانون تأمين المركبات في الكويت لحماية الأرواح وتخفيف الأعباء الصحية والمالية، وهو خطوة أساسية للحد من الحوادث والارتقاء بمعايير السلامة.
المقهوي: الاكتفاء بالغرامات دون حلول مبتكرة يشبه البناء على أساس هشّ
المقهوي: نفضل أن تُستبدل بعض المخالفات المرورية بعقوبات اجتماعية نافعة
أما الباحث في التراث الكويتي، فؤاد المقهوي، فقال «لا شك أن كل بلد في العالم هناك سائقون لا يلتزمون بقواعد المرور، ونجد العديد من المخالفات التي تنتج بفعل عوامل متعددة تُضعف المجتمع، ولهذا فإن الوعي والحرص أصبحا واجبين على كل فرد في المجتمع، الأمر الذي يدفع الحكومة إلى تأكيد أن المواطن الكويتي ملزم بالالتزام بقوانين السير، لأن مخالفة ذلك لن تؤدي إلا إلى زيادة المشكلات وتفاقمها».
وأضاف: «إن الاكتفاء بفرض الغرامات التي يحددها القانون، من دون تفعيل حقيقي أو حلول مبتكرة، يشبه البناء على أساس هشّ، بل إنه يزيد من الأعباء ويُضعف الردع، لذلك نحن نفضّل أن تُستبدل بعض المخالفات المرورية بعقوبات اجتماعية نافعة، مثل تنظيف الشوارع أو المشاركة في برامج توعية، وهو ما يعود بالنفع المباشر على المجتمع».
وتابع قائلاً: «إن فرض ضوابط أو غرامات سير من دون حملات توعية أو مساندة مجتمعية، سيؤدي إلى استياء العوائل والطلاب، خصوصاً أن كثيراً من هذه المخالفات تكون بسيطة، وبذلك لن يتحقق الهدف الحقيقي من هذه الأنظمة، وهو خدمة المجتمع وحمايته».
المصدر: جريدة الجريدة