في زمن لم يعد العقل البشري وحده قادراً على ملاحقة خيوط الجريمة، ظهر الذكاء الاصطناعي ليغيّر قواعد اللعبة، لم يعُد مجرد أداة مساعدة، بل صار محققاً رقمياً لا ينام، يفتش بين آلاف الساعات المصورة، ويقارن البيانات، ويتعقب الهواتف، ويعيد رسم خريطة الجريمة التي ساهم في الأساس بارتكابها بدقة تتجاوز قدرة البشر. قضية «طلاب إيداهو الأربعة» التي هزت المجتمع الأميركي، لم تكن مجرد جريمة قتل مروعة، بل كانت لحظة مفصلية أثبتت أن العدالة في عصر الذكاء الاصطناعي باتت أقرب، وأكثر شراسة، وأن القاتل وإن كان باحثاً في الجريمة وأستاذاً في الأخلاق لا يمكنه الفرار من آثار يتركها في الفضاء الرقمي، مهما حاول التخفي. وفي دراسة خص بها مدير الأدلة الجنائية السابق، الباحث في علوم الأدلة الجنائية والذكاء الاصطناعي، د. فهد الدوسري، «» بعنوان «دراسة المستقبل… حين تُدرّس الجريمة صاحبها»، ليستعرض كيف حاصر الذكاء الاصطناعي «قاتل إيداهو»، وساهم في كشف الحقيقة من بين ركام الغموض، وكيف تحوّلت القضية إلى نموذج عالمي يُدرّس في الجامعات، ويُعاد تفكيكه في مختبرات علم النفس والسلوك… لا للبحث عن «كيف حدثت الجريمة»، بل عن «لماذا حدثت؟». وأكد فيها أن قضية «إيداهو 4» لن تُغلق بانتهاء المحاكمة ولا باعتراف الجاني، بل ستبقى حيّة في ملفات علم الجريمة، تُدرس ويُعاد تحليلها، وتُستخرج منها الأسئلة الجديدة: كيف يمكن لطالب دكتوراه في علم الإجرام، يدرّس الأخلاق والعدالة، أن يتحول إلى قاتل بدم بارد؟ وهل كان شغفه بالجريمة تغذية معرفية أم نبوءة نفسية؟ وهل استخدم معرفته العلمية لإخفاء أثره أم لإشباع ذاته المتضخمة؟ ويؤكد الدوسري أنه في المستقبل القريب، ستدخل هذه القضية مناهج الجامعات التي تدرّس علم النفس الجنائي، وعلوم البيانات، والأدلة الجنائية الرقمية. وستُستخدم في دراسات مقارنة حول ازدواجية الشخصية بين المشتغل بالعدالة ومرتكب الجريمة، وسيُعاد فحص سلوكه الرقمي تحت عدسة تحليل السلوك التنبؤي. كما أن ملف التحقيق الرقمي، الذي استخدم بيانات الهاتف، وكاميرات المدينة، وتحليل DNA من النفايات العائلية، سيكون مرجعاً لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في التحقيقات، وستُستخدم هذه القضية كنموذج تطبيقي لأنظمة LAPIS، أو أنظمة دعم القرار الشرطي المستقبلية. كما سيُعاد قراءة أطروحاته وأوراقه البحثية، وسلوكه التدريسي كمنجم نفسي، يقرأه علماء الجريمة في محاولة لفهم: هل كان يكتب ليُنذر، أم يكتب ليُبرر؟ ولعلّ الدرس الأكبر أن الخطر لا يأتي دوماً من المجهول، بل من المتقن للفهم، الذي يعرف كيف يختبئ خلف مفردات العدالة وهو يجهّز لجرائمه بأدوات المعرفة ذاتها. وستظل هذه الجريمة شاهداً على مفارقة العصر: في زمن الكاميرات، والـ DNA، والذكاء الاصطناعي، لا ينجو حتى مَن خطط لكل خطوة.

عند الساعة الواحدة ظهر يوم الثاني من يوليو 2025، وفي ولاية إيداهو، الولايات المتحدة، وداخل قاعة المحكمة الابتدائية بمقاطعة لاتا في ولاية إيداهو، نطق برايان كوهبرغر بكلمة «نعم»، حين سُئل: «هل أنت من قتل الطلبة الأربعة؟».

أقرّ بجريمته أمام القاضي، وأسدل الستار على فصل من أبشع جرائم القتل التي هزّت المجتمع الجامعي الأميركي.

الجريمة وقعت في ساعة متأخرة من فجر يوم 13 نوفمبر 2022، حين تسلل كوهبرغر إلى منزل سكن طلابي، وطعن 4 أرواح بريئة: كايلي، ماديسون، زانا، وإيثان. ثم اختفى في الظلام، معتقداً أن أثره طُمِس.

لكن العدالة لا تنام… ودماء الضحايا لا تعرف الكذب.

وحين نطقت الأدلة، لم يكن القبض على كوهبرغر ضربة حظ.

لقد حوصر في متاهة من الأدلة التي رسمت طريق الحقيقة، واحدةً تلو الأخرى:

1 غمد السكين

• وُجد بجانب جثث الضحايا غمد سكين قتالية من نوع KaBar.

• عليه وُجدت آثار DNA ذكري، لم يُطابق أي سجل جنائي، لكن عبر تقنية علم الأنساب الوراثي (Genetic Genealogy)، تمكّن المحققون من الوصول إلى أقاربه، ثم إليه شخصياً.

2 كاميرات المراقبة و«هيونداي إلنترا»…

• راقبت كاميرات المدينة سيارة هيونداي بيضاء تتحرك ليلاً في محيط الجريمة، بسرعة متكررة.

• بالتحليل الزمني، تبيّن أن السيارة ذاتها تنتمي إلى كوهبرغر، وهو طالب دكتوراه في جامعة ولاية واشنطن المجاورة.

3 بيانات الهاتف المحمول

• كشف تحليل بيانات الأبراج الخلوية أن هاتفه كان مغلقاً أثناء وقت الجريمة محاولة لتجنّب التتبُّع.

• لكن المفارقة أن هاتفه كان قد زار الحي نفسه 12 مرة قبل وقوع الجريمة، مما يشير إلى مراقبةٍ وتحضيرٍ مسبق.

4 مشترياته عبر الإنترنت

• أظهرت التحقيقات أنه اشترى قفازات سوداء، وأكياس نفايات، ومنظفات قوية من مواقع إلكترونية قبل الحادثة بأيام.

• كما اقتنى سكيناً عسكرياً مشابهاً لما تم العثور على غمده.

5 سجله الأكاديمي

• في أطروحته البحثية، أعدّ استبياناً وزّعه على «مجرمين سابقين»، يسألهم فيه عن مشاعرهم عند ارتكاب الجريمة، وكيف اختاروا الضحية، وما الذي دفعهم للقتل.

• بدا وكأنه يبحث عن تفسيرٍ لنفسه، قبل أن يستعيره من غيره.

6 سلوكياته التدريسية

• في صفّه الجامعي، كان كوهبرغر يُناقش النظريات الجنائية ببرود مريب.

• أحد طلابه وصفه قائلاً: «كان يتحدث عن الجريمة كما لو كانت مسألة رياضية».

هروب من المقصلة

أمام هذا السيل من الأدلة، لم يكن أمام كوهبرغر مهرب، ففضّل الاعتراف بجريمته مقابل إسقاط حكم الإعدام، وسيُحكم عليه بالسجن مدى الحياة دون عفو أو استئناف.

لكن السؤال الذي لا تزال الجدران تهمس به: لماذا؟ ما الذي دفعك إلى طعن أربعة أرواح بريئة؟»

هل كان يستعرض علمه النظري على أرض الواقع؟ هل أراد أن يُجرّب كيف يشعر القاتل بعد الجريمة؟ أم كان مختبره… هو ليل الضحايا؟

يبقى أن نقول:

في عصر الأدلة الرقمية والحمض النووي، قد ينجو القاتل من الشهود، لكنه لا ينجو من الأثر. وفي حضرة الحقيقة، كل جرحٍ يتكلم… وكل دمٍ يشهد.

إن ما حصل في هذه القضية اليوم هو بمنزلة مساومة للعدالة، فما فعله الادعاء العام في ولاية إيداهو يُعرف قانونياً باسم «Plea Deal»، أو صفقة الاعتراف، وهي ممارسة شائعة في النظام القضائي الأميركي، تهدف إلى تسريع العدالة وتخفيف أعباء المحاكم، مقابل أن يعترف الجاني بجريمته ويحصل على عقوبة مخففة.

لكن، هل يليق بقاتلٍ طعن أربعة أرواح بريئة أثناء نومهم، أن يُعفى من الموت؟

هل العدل هو أن يُخاطب القاضي الجاني بلغة «الفرصة الأخيرة»، بينما صرخات الضحايا ما زالت عالقة في الجدران؟

من زاوية القانون: الصفقة شرعية، ووفقاً لدستور الولاية، لا تُنفذ عقوبة الإعدام إلا بشروط صارمة، بينها اعتراف الجاني، وموافقة المدعي العام، وتقييم عائلات الضحايا.

لكن من زاوية الأخلاق والضمير: هناك من رأى أن هذه الصفقة طعنت العدالة مرّة أخرى، فبعض ذوي الضحايا عبّروا عن رفضهم العلني، واعتبروا أن الدولة «خذلتهم»، بل وطالبوا بعرض جميع الأدلة للعامة، حتى لا يُطوى الملف في الظلام.

وهكذا…

أصبح كوهبرغر، قاتلاً مُداناً، لكنه حيّ، يأكل ويشرب، ويُفكّر… بينما أربعة قبور هناك، في أرض «إيداهو»، لا تزال تنتظر جوابًا لسؤال: «لماذا؟»

خاتمة: حين تفكر العدالة

ربما كان الأجدى ألا تُغلق القضايا الكبرى بمجرد اعتراف، بل بأن تُروى كاملة، فبعض الجرائم ليست مجرد أفعال، بل نوافذ لفهم أعماق الإنسان.

وفي زمن الذكاء الاصطناعي وتحليل الحمض النووي، صرنا نعرف «كيف وقع القتل»، لكن ما زلنا عاجزين عن الإجابة عن السؤال الأخطر: لماذا يُولد القاتل من بيننا؟

* مدير الأدلة الجنائية السابق، الباحث في علوم الأدلة الجنائية والذكاء الاصطناعي

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.