“ما الذي أوصل الإخوان في الأردن إلى هذا الطوفان ضدهم؟”…

تم نسخ الرابط
محرر الشؤون المحلية في خطوة لم تكن مفاجئة ، وأغلقت باباً كان مفتوحاً لعقود، قررت الحكومة الأردنية تفعيل أحكام القانون بحق ما يُعرف بجماعة الإخوان المسلمين “المنحلة”، واعتبارها جمعية غير مشروعة، ومحظوراً على أي فرد أو جهة التعامل معها أو الترويج لأفكارها. هذا القرار، الذي اُعلن على لسان وزير الداخلية مازن الفراية، لم يكن معزولاً أو مفاجئاً تماماً، بل هو تتويج لمسار طويل من التوترات والاحتقانات بين الدولة والجماعة، تطور على مدى سنوات، إلى أن بلغ مرحلة الانفجار.
الأردن، الذي عُرف بسياسة “الاحتواء” وفتح المجال أمام جميع التيارات السياسية بما فيها الإسلامية، اختار لعقود أن يترك الباب موارباً مع جماعة الإخوان المسلمين، حتى بعد قرار حلها القضائي قبل خمس سنوات، حيث لم يُفعَّل هذا القرار عملياً في حينه. كان يُنظر إلى الجماعة باعتبارها جزءاً من النسيج السياسي الأردني، وإن كان مثيراً للجدل، إلا أن الدولة كانت تتعامل معه كحالة قابلة للاحتواء طالما بقيت في إطار القانون. لكن هذا “الصبر السياسي” وصل إلى نهايته.
ما دفع الأمور إلى نقطة اللاعودة كان سلسلة من الأحداث المتراكمة، بدأت بتصعيد خطاب الجماعة بتشويه صورة مؤسسات الدولة، والتشكيك بقراراتها، وبث أفكار تمس بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، خاصة في سياق المواقف الأردنية من القضية الفلسطينية والعدوان على قطاع غزة. هذا الخطاب، وفقاً لدوائر صنع القرار، لم يعد يُقرأ على أنه مجرد اختلاف في الرأي، بل تحوّل إلى طعن في الثوابت الوطنية وتغذية للاحتقان الشعبي.
ثم جاءت الضربة الكبرى: إعلان دائرة المخابرات العامة عن إحباط مخططات خطيرة كانت تُعدّ منذ عام 2021، شملت تصنيع صواريخ محلية ومسيّرات، وتخزين أسلحة ومتفجرات، بل وضبط صاروخ معدّ للاستخدام الفوري. ووفقاً لما صرّح به الوزير الفراية اليوم، فأن التحقيقات وصلت ايضاً الى ضبط عملية لتصنيع المتفجرات وتجريبها من قبل أحد أبناء قيادات الجماعة المنحلة وآخرين كانوا ينوون استهداف الأجهزة الأمنية ومواقع حساسة داخل المملكة. هذا التطور لم يكن ممكناً تجاهله أو التعامل معه بمنطق سياسي تقليدي، بل تطلّب موقفاً صارماً لحماية أمن الدولة ومجتمعها.
الرد السريع من حركة “حماس”، التي طالبت بالإفراج عن المعتقلين الـ16، واعتبرت ما قاموا به “نصرة لفلسطين”، زاد المشهد تعقيداً. فالدولة الأردنية، التي لم تدّخر جهداً في الدفاع عن القضية الفلسطينية سياسياً ودبلوماسياً، رأت في البيان محاولة لتبرير سلوك خطير يهدد أمنها الداخلي. وهنا، بدا واضحاً أن ما كان يُمكن التفاوض حوله بالأمس، لم يعد ممكناً اليوم.
قرار الحكومة الأردنية إذن ليس فقط قراراً أمنياً، بل هو أيضاً إعلان واضح عن نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة لا تسامح فيها مع الجماعات أو الأفراد الذين يعملون خارج إطار القانون، حتى وإن رفعوا شعارات مرتبطة بقضايا نبيلة كفلسطين. فبالنسبة للأردن، لا شيء يبرر زعزعة أمنه أو استخدام أراضيه ساحة لصراعات إقليمية.
وفي الوقت الذي كان يُتوقع فيه أن تتبنى قيادات الجماعة مواقف واضحة تنأى بنفسها عن المساس باستقرار الدولة أو التشكيك في مؤسساتها، جاءت التصريحات الصادرة عنها فاقدة للحسّ الوطني، مترددة في الإدانة الصريحة، بل اتجه بعضها نحو تأطير القضايا الأمنية على أنها “افتراءات” أو “محاولات للتشويه”، وهو ما فُهم في الداخل الأردني على أنه تجاوزٌ للحدود، وخروج عن التقاليد السياسية التي تحتكم للوطن أولًا.
لقد ترافقت هذه التحولات مع تزايد الاحتقان في الشارع الأردني تجاه الجماعة، التي اتُهمت مرارًا بتبني خطاب سلبي ضد الدولة، خاصة فيما يتصل بمواقفها من القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على غزة. ومع تنامي هذا الخطاب، الذي كان مسموماً بكل اركانه، بدا أن هناك فجوة تتسع بين الجماعة والمجتمع، وأن الساحة السياسية لم تعد تقبل بأنصاف المواقف أو المواربة حين يتعلق الأمر بأمن البلاد.
القرار الأردني ليس مجرد رد فعل أمني، بل هو خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة ضبط الحياة السياسية على أسس قانونية ووطنية واضحة، تُعلي من شأن الدولة وقانونها فوق أي اعتبارات حزبية أو أيديولوجية أو املاءات خارجية. إنه إعلان بأن زمن التغاضي قد انتهى، وأن الولاء للأردن لا يحتمل تعدد الولاءات أو تبرير أي نشاط يُهدد السلم المجتمعي تحت أي شعار.
وفي ظل ما تشهده المنطقة من اضطرابات، فإن الأردن بحاجة إلى تمتين جبهته الداخلية، لا إلى مواجهات مع أطراف تحوّلت من المعارضة السياسية إلى ممارسات تمسّ كيان الدولة ذاته. لقد وصلت الرسالة، مفادها أن لا أحد فوق القانون، وأن الخطوط الحمراء أصبحت أوضح من أي وقت مضى.
في المحصلة، فإن ما أوصل الإخوان إلى هذا “الطوفان ضدهم” ليس لحظة واحدة، بل سلسلة طويلة من الخيارات والسلوكيات التي قرأت الدولة الأردنية أنها تجاوزت الخطوط الحمراء، خصوصاً في وقت حساس تمرّ به المنطقة. الأردن، الذي طالما كان مثالاً للانفتاح والتعدد، أعلن أخيراً أن أمنه واستقراره هما الأولوية القصوى، وأن لا مكان بعد اليوم للمناورات التي تُمارس من خلف ستار.