لا يمكننا الحديث عن ذات حرة أو كينونة محضة بلا رواسب ومخلفات العالم الذي نحياه. نحن محاطون بأنظمة قمع عديدة، وبسلطات مراقبة، وهواجس مستمرة يغذيها الخوف، والذنب، وتأنيب الضمير، وأخيراً، القلق المستمر من النبذ والطرد خارج القطيع البشري. منذ لحظة الولادة وما أن تتفتح أعيننا على هذا العالم حتى نصبح مسجونين داخل أسمائنا، وعائلاتنا، وهوياتنا، ومعتقداتنا، وكل ما يمكن أن يشكل ذواتنا، التي تنتمي إلى شعب ما أو مجتمع بشري يعيش في بقعة جغرافية معينة.
تولد السلطة بأنظمتها القمعية، وبقدرتها على المراقبة والعقاب، وبجاذبيتها على تقديم المكافآت والمناصب والأعطيات للذوات الخاضعة والطائعة، التي تعزز من هيبة السلطة ومركزها. يبدأ هذا من نظام الأسرة إلى نظام الشارع، والمجتمع، ومؤسسات الدولة الوظيفية.. من مدارس وداوئر حكومية، وجامعات، ومستشفيات، وسجون. فالإنسان ما إن يخرج إلى هذا العالم حتى يعامل كموضوع أو أداة أو هدف لغاية ما، ويتجلى هذا أيضاً في المجتمع وفي علاقاتنا مع الآخرين، وفي أحاديثنا وحواراتنا اليومية التي يطغى عليها أسلوب الهيمنة والإخضاع والتملك.
تولد السلطة ومعها أساليبها في الإقصاء والتهميش والطرد، ما دام الفرد فيها قويا وقادرا على الإنتاج والتماثل مع منظومات الهيمنة المنتشرة في الحياة والمجتمع، وفي آراء الناس ومعتقداتهم. أنا كائن حي، وإنسان لي كرامتي وقوتي، بقدر ما أنا قادر على الزواج والعمل وإنجاب الإطفال والانتماء لمعتقد أو دين أو طريقة في السلوك. أنا إنسان بقدر ما أنا خاضع وتابع، وبقدر ما أنا مؤثر وقادر على صناعة الخاضعين والأتباع في الوقت نفسه.
هكذا تتم صناعة الإنسان وتدجينه وتطويعه، وتصبح الذات منساقة لسلسلة من الأنظمة التي تشكلها وتتلاعب بها إيقاعات العمل، المواعيد، النظام الغذائي، الطب، الإعلام، القيم والعادات، القوانين الأخلاقية والدستورية. للسلطة أيضاً هامشها المنفلت من الرقابة والعقاب، ويتمثل في المجانين والمشردين والمرضى النفسيين، وبعض الشعراء والفنانين. عند هؤلاء تحديدا يمكننا أن نرى الوجه القبيح والدموي للسلطة، يمكننا أن نتحسس الوشم العميق، الذي يكوي أجسادهم بالعار والملاحقة والإقصاء والحرمان من مقومات الحياة البشرية، وحتى التنمر أو السخرية.
تحاول السلطة أن تجذب الهامش إلى مراكز قوتها وسطوتها، من خلال إعادة إنتاجها كذوات تخدمها، وتحديدا في العالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، هذا الفائض البشري الخلّاق، هو الذي يجسد لنا جوهر الحياة الحقيقية والعارية، بل هو الحرية ذاتها الملتصفة بالوجود والكينونة والطبيعة، لكن يعاد إنتاجها دائما في العالم الرقمي واستقطابها لإثارة الجدل والرأي العام، من خلال التعاطف والشفقة وعبارات الرثاء أو الإعجاب، وحتى نقد السلطة ومعارضتها وتفكيكها، لكن كل هذا يعمل بخفاء وباستراتيجية لا مرئية لتثبيت السلطة وتكريس نظام الهيمنة في دوائر مركزية.
المعرفة والسلطة عند فوكو
يرى ميشيل فوكو إلى أن المعرفة لا يمكن أن تكون بريئة، فكل معرفة هي نتاج السلطة، والمعرفة التي يقصدها فوكو ليست العلوم أو الأبيستمولوجيا، بل بنى الحياة التي تتشكل منها الذوات في علاقتها مع الدولة والمجتمع، كالقانون، والإعلام، والطب، والتعليم، إضافة إلى أنظمة الخطاب التي تمثل نمط الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وطرق التفكير في مرحلة معينة من التاريخ. هذه البنى هي القاع الهرمي للسلطة، والتي بدأ فوكو بنقدها وتفكيكها، إنها السلطة الحيوية التي تجعل من الحياة موضوعا، والتي ترى في الفرد الهدف الحقيقي لسلطة الدولة، وهي في الوقت نفسه تملك القرار في شرعنة حق الحياة ضمن أطر معينة وآليات تعزز من مركزيتها وسطوتها على الفرد. ومن هنا يجب أن نحرر قدرة الحياة في الإنسان ذاته، فعندما تصبح السلطة حيوية تصبح المقاومة سلطة حياة، وذوات تسعى إلى أصالتها وحريتها.
“يُسائل فوكو المجتمع الحديث والمعاصر بمعارفه وسلطاته وذواته، كيف تعمل، ماذا ترى، وماذا تقول، كيف تحاصر وتدجن من المهد إلى اللحد، كيف تنتج مجتمعاتنا الأجساد والأرواح، كيف توزع المتع والخطابات، كيف تمارس السلطات وتشهر بها، كيف تخلق المعارضين والأعداء والموالين، تعد بالتحرر وتقنن لاستعباده، تتحكم بالأرزاق والأعناق، ترفع اهتمامها بالحياة عالياً، وتنظم الإبادة الجماعية؟”وعليه فإن الذات عند فوكو هي عالم غامض من الرغبة والمتعة، شبكة علاقات وسيرورات من المعرفة والسلطة، كيان انزلاقي وهش، قابل للثني والطي، يعاد تشكيله دوما ًمن خلال فنائه وانزياحاته وإمكانات تحقيقه في كل مرة.
فوكو والهوامش
إن المتاهة الحاضرة في لعبة فوكو هي محاولة دائمة للإفلات من قبضة العقل الهيغلي، والقبض على رهانات الحقيقة المبعثرة بين الهوامش وخلف الكواليس، فما يميز فوكو هو حفرياته النادرة والغريبة في حقول المعرفة، وتحليله لمركبات السلطة وأنساقها عن طريق الخطاب السائد في كل مرحلة من مراحل التاريخ. تكمن أهمية فوكو في الفلسفة المعاصرة في تسليطه الضوء على أكثر المناطق عتمة وتهميشاً وإقصاءً في تاريخنا المعرفي، فالتاريخ الفعلي في نظره لا ينشغل بالأصول والأسس الثابتة، بل يبرز الحدث في تفرده ووحدته، ولا يعني الحدث هنا قراراً أو معاهدة حكم أو معركة، وإنما علاقة قوى تنقلب أو سلطة تنتزع، أو لغة تبنى وتستعمل ضد أصحابها، أو هيمنة تضعف وتفتر لتفسح المجال لهيمنة أخرى تظهر في شكل مقنع.
إن التاريخ هو تاريخ الفواصل والهوامش والمحاولات والصراعات. تاريخ الكدح والجهد كما هو تاريخ الصمت، والقمع، والتنكر، والتزييف، والاستلاب. أما الصراع الذي يعنيه فوكو؛ فهو أشبه ما يكون بالفوضى، لأنه يعمل في المشتت والهامشي والمرتحل والمؤقت، حيث تحدث الصراعات صدعا ًمتنقلا ًفي المجتمع وانفصاما في الأفراد، تشتتهم وتعيد صياغتهم.إن إلحاح فوكو على مفهوم الصراع هو إلحاحه على مفهوم التاريخ، تاريخ الجنون، والطب والقضاء، والجنس، والأخلاق، لإدراك ما في التاريخ من ساخر، وتهكمي، وتصادفي.وعليه فقد كان المجانين والمرضى النفسيون والسجناء وغيرهم من الهوامش والتوابع هم محور اهتمام فوكو في حفرياته التاريخية والمعرفية. ولكن من هو التابع حقاً، وهل استطاع أن يتكلم من خلال فلسفة فوكو؟
هل يستطيع التابع أن يتكلم؟
تعد الناقدة والمنظرة الأمريكية من أصول بنغالية غاياتري سبيفاك، واحدة من أبرز مفكري ما بعد الاستعمار، وما بعد البنيوية. وقد كتبت هذا الكتاب عام 1988، والذي كان في الأصل مقال شهير بنفس العنوان. يدخل الكتاب في جدل ما بعد البنيوية، ويدور حول مسألة (صوت من لا صوت له)، أي هل يمكن للمهمشين والمضطهدين (التابعين) أن يعبروا عن أنفسهم في ظل أنظمة الهيمنة الثقافية والمعرفية في الغرب؟
إن التابعين والذين تسميهم سبيفاك بالهوامش أو المركز الصامت هم أولئك الذين يتواجدون في أسفل السلم الاجتماعي والسياسي، ولا يملكون سلطة أو تمثيلاً كالفئات المهمشة التي تشمل: الفقراء الفلاحين العمال المستعمرين الخاضعين للغرب، فالتابع في سياق الإنتاج الاستعماري لا يملك تاريخا، ولا يمكنه الكلام.
تؤكد سبيفاك على صعوبة أو استحالة أن يسمع صوت التابع بصفائه وحقيقته وبساطته، لأن الخطابات المهيمنة في الغرب من المفكرين، والنخب الثقافية، والمستعمرين تفرض تفسيراتها على حديث التابع، فالتابع لا يستطيع أن يعبر عن نفسه خارج إطار أنظمة السلطة والمعرفة التي تشوه صوته أو تغيبه تماماً. إن المشكلة ليست في أن التابع لا يتكلم حرفياً، بل في أنه لا يسمح لسياقه أن يفهم خارج شبكات السلطة، فكل خطاب عن تابع، وكل خطاب من المتعاطفين معه يعيد إنتاج التبعية بشكل ما، وكل محاولة لإعطاء صوت للتابع عبر وسطاء كالمستشرقين والمثقفين والمفكرين الغربيين، غالبا ما تفرغه من معناه.
تستشهد سبيفاك في كتابها بقضية النساء الهنديات في الحقبة الاستعمارية، خصوصا ًعادة السوتي (حرق الأرملة مع جثة زوجها). فالسلطات البريطانية كانت تدّعي تحرير النساء الهنديات بإلغاء هذه العادة. لكن في الواقع لم يسمع صوت النساء أنفسهن، بل كن ضحية لتنازع خطاب السلطة الاستعمارية والسلطة الذكورية المحلية على تفسير مصيرهن. وبهذا الصدد ترى سبيفاك أن مواطني أوروبا كانت لبلدانهم قوانين جزائية وقاسية، وخبروا العربدة من حرق الساحرات، والاضطهاد الديني لمدة قرن من الزمان، تقريباً قبل أن يصدم السوتي الضمير الإنجليزي، و قد كان من الأجدر بهم أن يعيشوا الشعور نفسه قبل صدمة السوتي هذه.
في عصرنا الراهن يمكننا أن نسوق العديد من الأمثلة على التابع، وعلى مراكز الهيمنة الغربية التي تتحدث نيابة عنه، مثل اللاجئين والمهجرين غير الشرعيين في أوروبا، والذين تتكلم عنهم منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، أو أعضاء في البرلمان بأنهم ضحايا ..أو خطر أو عبء اقتصادي أو أدوات سياسية …إلخ ، لكننا في الحقيقة لا نسمع صوتهم، بل يتم الحديث عنهم عبر وسطاء أو وكلاء. كذلك المرأة المسلمة في الخطاب الغربي وموضوع الحجاب، الذي يرى فيه الغرب أنه نتاج ثقافة دينية متخلفة، بل يمارس في بعض الأحيان أساليب عنف وقمع تصل إلى القتل والاعتداء الجسدي، لكن المرأة المسلمة نفسها نادراً ما يسمح لها بتقديم وجهة نظرها ضمن لغتها وسياقها الثقافي الخاص، بل يتم تأويلها وفق منطق الآخر وثقافته، أو نظرته الاستعلائية المركزية.
لنأخذ أيضاً مثال السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا الذين ينظر إليهم كتراث أو ثقافة مهددة يجب إنقاذها، هكذا يتم عرضهم كشيء من الأشياء، ويتم تسييس خطابهم لمصلحة السلطة المركزية. كذلك الحال ينطبق في الغرب على الموقف الصامت والمتخاذل من جرائم الكيان الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني، والخوف من نقد إسرائيل وتجريم أفعالها العنصرية
إن القضية الفلسطينية في وقتنا الحالي خير دليل على مثال الهيمنة والتابع، فالفلسطينيون يتم تقديمهم إما كضحايا إرهابهم الخاص أو كمشكلة سياسية معقدة، وفي كلا الحالتين يتم إسكات صوتهم السياسي والثقافي الحقيقي، ولا يسمح للسردية الفلسطينية أن تخرج دون مرشحات السلطة ومراكز هيمنتها.
تستنطق سبيفاك المسكوت عنه، وتُظهر لنا في العلن بؤر الهيمنة الخفية والمتخفية في خطابات الهامش عند فوكو ودولوز ودريدا، كما أنها تكشف تعقيدات العلاقة بين المعرفة والسلطة، وكيف يمكن للمعرفة نفسها أن تصبح أداة للسلطة، فعندما يتحدث الغرب عن الآخر، فهو يعيد إنتاج صورة الآخر ككائن صامت بحاجة إلى الاعتراف أو التفسير، فاستيعاب الآخر من أجل استنطاقه عنوة يعني الاستيلاء الخطير عليه. لذا، يجب علينا أن ننتبه للكيفية التي تنتج بها المعرفة حول المهمشين، ويجب التشكيك في الخطابات التي تدّعي تمثيل صوت التابع. لا تفكك سبيفاك مراكز السلطة في الغرب، وتكشف عن النظرة الاستعلائية المركزية تجاه شعوب الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا فحسب، بل تفضح النوايا الاستعمارية الخفية حتى في أكثر الخطابات إنسانية، كما أنها تؤسس لنقد جذري لأدبيات ما بعد الاستعمار عن طريق إثارتها لتساؤلات مهمة في جوهر فلسفة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية حول من يحق له الكلام، ومن يملك شرعية التمثيل؟