لم تكن تلك الليلة عادية في مدينة الكوت، ولا في قلوب العراقيين جميعًا. في الهايبر ماركت الذي لم يُكمل أسبوعه الأول، كان العشرات من الناس يتجولون بين الرفوف، يشترون حلوى لأطفالهم أو علبة شامبو، أو قطعة ثياب. لم يكن أحد يعلم أن ما يُشترى في تلك اللحظات هو “تذكرة موت”، وأن العطر سيشتعل قبل أن يُرش، وأن الهايبر ماركت سيتحول من مكان للتسوق إلى محرقة جماعية.69 روحًا، بينهم أطفال، احترقوا، اختنقوا، أو قضوا وهم يركضون بحثًا عن مخرج لا يُفتح… لا لشيء، فقط لأن أبواب النجاة كانت مغلقة.
في بلد لم يتبقَ فيه شيء لم يُفجع، جاءت نيران واسط لتضيف وجعًا جديدًا، لكن هذه المرة ليس بسبب الإرهاب، ولا الحرب، ولا السلاح المنفلت، بل بسبب “الإهمال”. كلمة صغيرة لكنها أكبر من كل حرائق الدنيا. لم يكن في الهايبر ماركت نظام إنذار حريق، ولا طفايات موزعة، ولا مخرج طوارئ صالح. كانوا محبوسين في صندوق من النار، يصعد دخانهم إلى السماء… بينما نحن نفتح هواتفنا لنقرأ: “قاطع تبكي، العراق ينزف من جديد.”
مَن المسؤول
الهايبر ماركت لا ينهار خلال دقائق إلا إذا كانت كل شروط الموت مهيأة سلفًا: بنىً هشة، أعمدة بلا مقاومة، أبواب مغلقة، وسقف قابل للاشتعال، وتصميم بلا ضمير. من الذي سمح بفتحه؟ من منح الإجازة؟ من أغلق عينيه على غياب أبسط شروط السلامة؟ من أقنع أصحاب المال أن الربح أهم من حياة الناس أمام هذه الأسئلة، تنسحب الدولة. تُصدر بيانات، تُعلن الحداد، تشكّل لجانًا للتحقيق، وتعد بمحاسبة المقصرين. لكن العراقيين يعرفون هذه اللعبة جيدًا. يعرفون أن النار قد تنطفئ، لكن العدالة لا تُوقد في بلدان أطفأها الفساد منذ سنين.
ابني كان يشتري لزوجته فستانًا…
هكذا قالت أم أحد الضحايا، وهي تمسك صورة صورة هاتفه. كان داخل الهايبر ماركت ولم تُتح له فرصة للنجاة. اشتعلت النيران من حوله، والدخان غطّى الممرات والأبواب مغلقة. “ليش؟”، تتساءل الأم… ولا أحد يجيب.وطفلة لا تتجاوز الثماني سنوات، عُثر على جثتها ممسكة بيد أمها المحترقة. يُقال إنهما حاولتا الوصول للباب الخلفي، لكنه كان مغلقًا. هذا المكان صُمم ليبيع، لا لينقذ.
ألم دائم
المصيبة ليست في موتهم فقط. بل في أن هذا الموت لم يكن قدريًا، بل كان “جريمة جماعية”. كان يمكن منعه. كان يمكن إنقاذهم لو كان في هذا الوطن نظام، أو ضمير.كم هايبر ماركت بالقاطع يشبه هذا كم مدرسةوكم مستشفى وكم بناية حكومية إذا لم تكن كارثة قاطع نقطة تحوّل، فإننا مقبلون على كوارث أخرى، سنبكي فيها من جديد، ثم ننسى… ثم نبكي، ثم ننسى.
رسالة إلى من في الحكم
يا من تقرأ هذا، هل رأيتم وجوه الأطفال وهي تذوب هل سمعتم أصوات العالقين وهم يصرخون في الداخل؟ هل تستطيعون النوم الآن وأنتم تعرفون أن الفساد الذي رعيتموه صار نارًا يا سادة الحكومة، نريد أسماء، لا لجان. نريد محاسبة، لا بيانات تعزية. نريد أن نرى أول مرة يُحاسب فيها مسؤول علنًا. نريد أن نصدق أن العراق لا يُدار كما يُدار صندوق زكاة، بل كما تُدار دولة تحترم الإنسان.
قاطع لن تنسى
المدينة التي بكَت أبناءها، والتي وقفت عاجزة أمام اللهيب، لن تنسى. أهل الضحايا لن يسامحوا. ولا نحن.في هذا البلد الموجوع، لا يكفي أن نبكي.لا نريد أن نُطفئ الحريق، نريد أن نُشعل العدالة.نريد أن تتحول دموع الأمهات إلى قانون، وصوت الأطفال المحترقين إلى صرخة في وجه كل فاسد، وكل من وقّع ورقة بناء دون سلامة، وكل من جعل أرواح العراقيين سلعة تُباع مع رخصة بناء