قبل يومين فقط، أغلق العراقيون آخر صندوق انتخابي، وفتحوا معه باباً جديداً من الأمل والقلق في آن واحد. انتخابات جديدة، وجوه فازت، وجوه خسرت، أصوات ارتفعت، ووعود أطلقت، لكن وراء كل ذلك هناك شيء واحد يصرخ بصمت: الناس تعبت. العراق اليوم يقف على مفترق طرق حساس، لا يشبه أي مرحلة مرّت عليه منذ سنوات طويلة. النتائج الحالية لم تعد مجرد أرقام تُعلن على الشاشات، بل باتت اختباراً جدياً لمدى قدرة الطبقة السياسية على فهم وجع الشارع العراقي الذي أنهكته الظروف، وأتعبته الأزمات المتراكمة من دون أي نهاية واضحة.المشهد الانتخابي هذه المرة لم يكن عادياً. نسبة المشاركة حملت رسائل كثيرة، فيها غضب، وفيها أمل، وفيها لامبالاة أيضاً. المواطن العراقي ذهب إلى الصندوق وهو يحمل أسئلة معلّقة: هل ستتغيّر أحوالي؟ هل ستتحسن الخدمات؟ هل سيجد ابني فرصة عمل؟ هل ستنتهي فوضى الصحة والتعليم؟ هذه الأسئلة هي التي صنعت المشهد الحقيقي، وليس فقط نتائج الفرز والأرقام. اليوم، وقد أعلنت النتائج، نقف أمام حقيقة واحدة: الشعب العراقي بدأ يفقد صبره. التعب واضح على الوجوه. الناس ملت من الوعود المتكررة، من انتظار التعيينات الحكومية التي لا تأتي، من فرص العمل التي تتقلص بدلاً من أن تكبر، من البطالة التي تلتهم طموحات الشباب. العراقي اليوم لا يبحث عن رفاهية، بل يبحث عن حياة طبيعية، عن مستشفى يثق به، عن مدرسة محترمة لولده، عن شارع آمن، وعن دولة تحترمه.الهجرة أصبحت هاجساً يومياً. شباب يحلمون بالمغادرة، ليس لأنهم لا يحبون العراق، بل لأنهم لا يجدون مكانهم فيه. فكرة السفر باتت تتردّد على ألسنة الناس بطريقة مقلقة. العراقي لم يعد يريد الهجرة كترف، بل كطوق نجاة من واقع يزداد صعوبة. وهذا وحده جرس إنذار يجب أن يفهمه كل سياسي فاز بالانتخابات: إذا استمرت موجة الهجرة بهذا الشكل، سنفقد طاقات البلد قبل أن نفقد أعداده. التعليم هو وجه آخر للأزمة. مدارس مزدحمة، جامعات تفتقر للدعم، مناهج لا تواكب الزمن، ومخرجات تعليمية لا توازي أحلام الشباب ولا حاجات السوق. كيف ينمو بلد من دون تعليم قوي؟ كيف نتوقع أن ينافس العراق دول العالم بينما أبناؤه يتخرجون ليجدوا أنفسهم بلا فرصة، أو ضمن بيئة عمل لا تقدّر ما تعلموه؟والصحة… هذا ملف آخر لا يقل الماً. مستشفيات بحاجة إلى تطوير حقيقي، تجهيزات ناقصة، كوادد مثقلة، ومرضى يضطرون للسفر خارج بلدهم للعلاج. العراقي اليوم يريد دولة إذا مرض يجد فيها علاجاً، وإذا تعب يجد فيها من يقف معه، وإذا فقد الأمل يجد من يعيده إلى الطريق. الصحة ليست رفاهية، بل حق أساسي. ومع كل هذه التحديات، تبقى قضية التعيينات أبرز هموم الناس. سنوات طويلة مرّت والعراقي ينتظر “فرصة تعيين” كأنها حلم مستحيل. بلد غني مثل العراق يجب أن يوفّر فرص عمل حقيقية، لا أن يتحول مستقبل الشباب إلى ورقة سياسية أو وعد انتخابي. ومن هنا، يأتي الخطاب الذي يجب أن يسمعه السياسيون الفائزون اليوم، خطاب من الشعب إليهم: انتبهوا للناس. انتبهوا للشباب. انتبهوا لمن أوصلكم إلى مواقعكم. لا تجعلوا الفوز مقعداً، بل اجعلوه مسؤولية.العراقيون تعبوا. يريدون تغييراً حقيقياً، لا شعارات. يريدون أن يشعروا بأن الدولة تراهم، تسمعهم، وتعمل من أجلهم. يريدون دعماً للمشاريع الصغيرة، فرص عمل، دعم للقطاع الخاص، بنى تحتية حقيقية، تعليم وصحة محترمين. هذا ليس كثيراً على شعب قدّم ما قدّم، وصبر ما صبر.على السياسيين اليوم أن يتذكروا أن الفوز ليس نهاية الطريق، بل بدايته. هذه المرحلة تتطلب شجاعة مختلفة: شجاعة اتخاذ قرارات جريئة، شجاعة الاعتراف بالأخطاء السابقة، وشجاعة وضع مصلحة الناس فوق أي حسابات حزبية أو شخصية. العراق لا يتحمل المزيد من الدوران في نفس الحلقة. وأخيراً. العراقيون لا يريدون الهجرة. يريدون أن يبقوا في وطنهم، أن يعيشوا بكرامة، أن يروا مستقبلاً لأطفالهم هنا، على أرضهم. نحن نريد للبلد أن ينهض، أن يبتسم، أن يستعيد روحه. وهذه مسؤولية كل سياسي فاز قبل يومين: اثبتوا أن العراق يستحق الأفضل… وأن العراقي يستحق أن يعيش في وطن يحبه ويبقى فيه، لا أن يهرب منه.