تخشى إيران أن تمد يدها إلى الحرب في غزة لئلا تحترق. ذلك ما نعرفه سلفا. فهي تلجأ إلى اللغة الناعمة حين تشعر أن الأمور لا تحتمل المزاح وأن كل شيء يقع خارج التسويات المبيتة ما بينها وبين الولايات المتحدة. لكن ما لم يكن يتوقعه الكثيرون أنها ستأمر أتباعها باتباع الحد الأدنى من قواعد الاشتباك من غير الانتقال من مرحلة الخطاب الإعلامي الغاضب إلى مرحلة التعرض العشوائي التي لا تعرف عواقبها. وفي ذلك إنما تخشى إيران أن يذهب هباء كل الجهد الذي بذلته والمال الذي هدرته ودم جنرالاتها الذين تم قتلهم في لبنان وسوريا والعراق. وتضيع كل ما حققته عبر أكثر من ثلاثة عقود من هيمنة في المنطقة.
صحيح أن إيران نجحت في منع إسكات الصوت الفلسطيني المتسائل عن سر صمتها ووجهته في اتجاه العرب، وصحيح أيضا أنها أعلنت في وقت مبكر من بدء الحرب عن براءتها من القرار الذي اتخذته حركة حماس بشن الحرب على إسرائيل، غير أن الصحيح أيضا أنها منعت حزب الله وهو أكبر الفصائل المسلحة التابعة لها وأكثرها تماسا بإسرائيل من الانتقال بموقفه من الخطاب الإعلامي المندد والغاضب إلى فعل المشاركة المسلحة. في ذلك تعبير عن خشيتها من إمكانية أن يُصاب الحزب المذكور في مقتل يؤدي إلى إخراجها من لبنان بشكل نهائي. حينها تكون قد فقدت جزءا عزيزا من معادلة استقوائها في المنطقة لا يمكن أن تعوضه في الدول العربية الأخرى التي وقعت تحت وصايتها.
كان متوقعا أن لا تشن إيران حربا على إسرائيل بسبب غزة. فهي ترفع شعارات ضد إسرائيل منذ أكثر من أربعين سنة غير أن فلسطين ليست قضية مصير أو وجود بالنسبة إليها. لديها مشكلات مع العالم تتجاوز المساحة التي تحتلها قضية فلسطين في العقل السياسي العالمي. إيران دولة توسعية وهي تفوق إسرائيل طمعا وشراسة وابتذالا في ذلك. وهي تنافس الولايات المتحدة في محاولة صنع شرق أوسط جديد. ولأن خرائط إيران لا تشمل فلسطين فإن كل ما يتعلق بإسرائيل قد رُمي به في ملف آخر غير الملف الذي يحتوي على الشعارات الزائفة التي تناصر القضية الفلسطينية من غير أن تكون العلاقة بحماس جزءا منها. ذلك لأن تلك العلاقة التي يمكن اعتبارها عقائدية بالدرجة الأساس كانت تهب إيران فسحة أرض مضافة اقتطعتها حماس من فلسطين.
لم تهب إيران الفلسطينيين شيئا لإسناد مقاومتهم. بعكس ما فعلته دول عربية عديدة كالعراق أيام دولته الوطنية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت وجمهورية مصر وسوريا وأخيرا دولة قطر التي يُشك أن حماس قد استفادت من أموالها في بناء مدينتها تحت الأرض. تلك هي مدينة الأنفاق التي تسعى إسرائيل إلى تهديمها من غير أن تكون واثقة بأنها تحقق أهدافها. هل قدمت إيران سلاحا لحركة حماس؟ ولو كان ذلك صحيحا، فهل كان ذلك السلاح في خدمة القضية الفلسطينية؟ بعد انفصال غزة عن فلسطين لا يمكن الحديث عن قضية فلسطينية خالصة. لقد أدخلت حماس العقيدة الدينية عاملا مهما في الصراع على حساب القضية الوطنية وهو ما يلائم طريقة التفكير الإيرانية. تلك طريقة ستجد طريقها إلى التنفيذ في كل الحروب التي كانت غزة ضحيتها.
أما وقد ضربت إسرائيل حزب الله في عقر داره بالضاحية الجنوبية لبيروت واغتالت صالح العاروري فإنها كانت مستعدة لأسوأ الاحتمالات. أن ينتقم حزب الله لكرامته. ولكن طريقة إيران في التعامل مع مقتل جنرالها قاسم سليماني عام 2020 في العراق لا تزال شاخصة أمام الأعين. كانت مسرحية نُفذت بالاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران. لقد سمحت الولايات المتحدة لإيران بأن تطلق صواريخ في اتجاه واحدة من قواعدها في العراق من غير أن يسبب ذلك القصف وقوع ضحايا بشرية. سليماني كان أهم من العاروري بالنسبة إلى إيران. وهو ما يعني أن حزب الله لن يفعل شيئا في مواجهة العدوان الإسرائيلي الذي سيتكرر في حالة وجود قياديين آخرين من حماس في الضاحية.ومثلما فعلت إيران مع حزب الله فإنها لن تضحي بحوثييها في اليمن ولا بحشدييها في العراق. ستخفض درجة الاشتباك في انتظار ما تسفر عنه الحرب في غزة. فلا الحوثيون قادرون على إعاقة الوصول إلى قناة السويس ولا في إمكان الحشد الشعبي في العراق إغلاق القواعد الأميركية. ولكن إيران ترغب في التذكير بوجودها ليس إلا.