لا تعتقد إسرائيل أنها تحتاج إلى شيء من الذكاء لكي تتعامل مع الفلسطينيين، فالتعامل معهم من وجهة نظرها لا يحتاج إلى الذكاء، بل إلى القوة. ذلك ما جعلها لا ترتكب الحماقات واحدة إثر الأخرى وحسب، بل وأيضا تجعلها سهلة الانقياد إلى الحرب، ظانة أنها عن طريق الحرب يمكنها أن تحل مشكلاتها المتراكمة لا مع الفلسطينيين أو العرب وحدهم، بل أيضا مع حقيقة وجودها كيانا شاذا في المنطقة، تحيط بشعبه شعوب لا تحبه ولا يحبها. وليست الكراهية إلا عنوانا لما تفعله إسرائيل في كل لحظة في محاولة منها للانتهاء من معضلة أثبتت كل السنوات التي مرت عليها أنها قد فشلت في التخلص منها، لا لشيء إلا لأنها لا تعترف بإرادة الطرف الآخر في المعادلة. فهي تتصرف باعتبارها طرفا وحيدا. أما حين تواجه رد فعل صادم مثل ذلك الذي حدث في 7 أكتوبر فإنها تلجأ إلى العنف المفرط انتقاما من مدنيين لا علاقة تنظيمية لهم بالطرف الذي تقول إنه استفزها حين اخترق جدارها.
“إسرائيل قوية” لكنها ليست كذلك أمام الفلسطينيين العزل. الفلسطينيون يعرفون الحقيقة أكثر منا. هم الضحايا المباشرون لتاريخ من التمييز والعزل والظلم والاضطهاد والحرمان. لم تنل القوة الإسرائيلية من عزيمتهم، بل زادتهم إيمانا وثقة بعدالة عدالتهم. أما على الجانب الإسرائيلي فيمكن القول إن القوة قد استضعفت حالها في حالات كثيرة. وقد تكون حالة “عهد التميمي” واحدة من أبرز تلك الحالات. فالمرأة التي هي الآن في الثانية والعشرين من عمرها كان قد ذاع صيتها يوم صفعت جنديا إسرائيليا وهي لا تزال طفلة وحُكم عليها بالسجن لتلتحق بأمها. وحين وقعت أحداث غزة تم اعتقالها وها هي الآن حرة بعد أن أطلق سراحها في سياق صفقة تبادل الأسرى. ولكن لماذا اعتقلت إسرائيل المرأة لكي تكون في ما بعد رقما في الصفقة؟
إسرائيل تكذب في ما يتعلق بالأسرى الذين تطلق سراحهم وحركة حماس صامتة وهي تستلم قائمة الأسرى الذين تُطلق إسرائيل سراحهم. هل الرقم هو المهم أم الحقيقة؟ عهد التميمي ليست أسيرة. لقد اعتقلتها القوات الإسرائيلية مع بدء الأحداث لأن تلك القوات تتصرف بغباء. فهي مدفوعة بالعنف تلتقط كل من تحوم حوله الشبهات. هناك أسرى حقيقيون لو أطلق سراحهم لكان ذلك إنجازا عظيما. من يضحك على الآخر؟ هناك مناضلون فلسطينيون حقيقيون يقبعون في السجون الإسرائيلية. أبطال محرومون من الحياة بمعناها الكامل. لقد سلّمتهم إسرائيل إلى الموت وهم في شبابهم. أولئك المناضلون لم يطالب بهم أحد. وهو ما يُريح العقل الإسرائيلي الشرير. دعهم يموتون. لا أحد يطالب بهم. أما عهد التميمي التي لم تكن متهمة ولم تحاكم فقد كانت مجرد رقم. غير أن أسطورتها سبقتها وهي أسطورة تكفي لصنع غطاء تفاهم سيكون هو الآخر مجرد كذبة.
اعتقال عهد التميمي ومن ثم إطلاق سراحها هو واحد من أهم تمثلات الغباء الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين. فالقضية الفلسطينية ليست ابنة اليوم. ولا يجوز في لحظة غباء إسرائيلي أن ينسى الفلسطينيون الشخصيات، رجالا ونساء، التي وضعت اسم فلسطين على الخارطة الدولية. صارت فلسطين بسببهم حاضرة بعمق في الوجدان العالمي وليس على شاشات التلفزيون. لا يزال عدد من تلك الشخصيات مدفونا بالأحكام الثقيلة في غياهب السجون الإسرائيلية، غير أن حركة حماس لا تملك سببا استعراضيا للمطالبة بإطلاق سراحهم. فهم لا يمثلونها عقائديا. وهنا تكمن مشكلة معقدة استطاعت إسرائيل أن توظفها لصالحها. فـ”حماس” التي حسمت الصراع مع السلطة في غزة لصالحها كانت قد قررت أن تصنع تاريخا نضاليا جديدا لا علاقة له بالماضي. إنه تاريخ المقاومة الإسلامية. أمّا كيف استفادت إسرائيل من ذلك فهو ما يمكن اختصاره بتسطيح القضية.
فرح الكثيرون بإطلاق سراح عهد التميمي. كان ذلك واحدا من أهم إنجازات حرب غزة التي سقط فيها حتى الآن أكثر من 16 ألف قتيل وهناك مفقودون تحت الأنقاض لا حصر لهم إضافة إلى الجرحى. أما على مستوى مادي فقد قرر بنيامين نتنياهو أن يجعل غزة ترابا بحثا عن أنفاق حماس. وهنا بالضبط ستصدق إسرائيل غباءها. هناك من يصدقها ويصفق لها. ولكن فلسطين الأسيرة لا أحد يفكر فيها. لنحتفل بالأسرى الذين كذبت إسرائيل علينا من خلالهم. بدلا من أسطورة فلسطين سنكتفي بأساطير صغيرة.