لم يعد قياس قوة الدول في القرن الحادي والعشرين يقوم فقط على الوزن العسكري أو الاقتصادي أو حتى السياسي، بل أصبح المعيار الحقيقي هو قدرة الدولة على إيصال صوتها وسردياتها وقيمها الخاصة إلى العالم. هذا ما يسميه الباحثون اليوم: بناء صورة الدولة Nation Branding، والدبلوماسية العامة Public Diplomacy، واستراتيجيات القوة الناعمة Soft Power، فالدول التي تنجح في هذا المجال، تبني سمعتها، وتكسب الثقة، وتجذب الاستثمارات، وتؤسس لمكانة راسخة في النقاشات والفعاليات العالمية، لا بالقوة المادية، بل بالثقافة واللغة والتواصل.
صورة العراق الغائبة عالميًّا
أين يقف العراق من كل هذا؟ لقد عانى العراق لعقود طويلة من الدكتاتورية والحروب والعقوبات، ومن تغييب هويته المحلية باسم الأيديولوجيات القومية العربية، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً على سمعته الدولية. وبرغم كون العراق مهداً لأعرق الحضارات الإنسانية، لم يتمكن العراق من تقديم إسهاماته الثقافية والإنسانية والفكرية للعالم بالصوت العراقي المباشر. إن أحد الأسباب الجوهرية لهذا الغياب هو افتقار العراق لسياسة ثقافية وإعلامية باللغة الإنـجليزية. ومع أن الإنـجليزية هي اللغة الدولية للتواصل في الدبلوماسية والتجارة والأكاديميا والإعلام، إلا أن العراق لم تستثمر فيها كمنصة استراتيجية. ونتيجة لذلك، باتت صورة العراق تُرسم في الخارج عبر منصات أجنبية، غالباً ما تُشوّه الحقائق أو تُسطّحها أو توجّهها بما يخدم مصالح غير عراقية.
المرآة المفقودة للإنـجليزية
ومثلما يحتاج العراقي إلى معرفة اللغة الإنـجليزية ليتواصل مع الآخرين خلال سفره خارج العراق، فإن غياب سياسة نشطة لإطلاق منصات باللغة الإنـجليزية، يحد من تواصل العراق كأمة مع الأمم الأخرى، ويهدد سمعة العراق العالمية، ويضعه في ظلمة التأخر عن صياغة صورته الدولية وعن تقديم إسهاماته الحضارية للعالم.
إن الهند مثال بارز في هذا المجال. فبالرغم من أن الإنـجليزية ليست لغتها الأم، استطاعت أن توظف صحفاً كبرى مثل The Times of India وThe Hindustan Times وThe Economic Times لتصدير سرديتها، ولتكون نافذة عالمية لسياساتها وثقافتها وإنجازاتها. بل إنها اتخذت الإنـجليزية اللغة الرسمية الثانية في وقت يوجد في الهند أكثر من 120 لغة منها 22 لغة معترف بها رسميا، بينما تنص القوانين الاتحادية على جعل الإنـجليزية اللغة الأولى بين ولايتين ليست الهندية هي المحكية فيهما، وهذا ما دفع الهنود إلى ابتكار لغة محورة عن الإنـجليزية تسمى الهنـجليزية Hinglish . وهنا أمثلة أخرى على أنشأت فيها دول صغيرة اقتصاديا أو حديثة عهد بالصحافة الحرة، منصات إعلامية بالإنـجليزية لتوصل صوتها إلى العالم، ولتأخذ لها مكانا في المجتمع الدولي.
أما العراق، (إذ ما طمحنا إلى ما وراء وكالة الأنباء العراقية التي تأسست عام 1959)، فلا صحيفة إنـجليزية مرجعيّة كبرى لديه، ولا منصة رقمية عالمية تمثله، ولا سياسة وطنية توحد عمل المواقع الرسمية ثنائية اللغة للمؤسسات الحكومية والجامعات والوزارات، والمؤسسات الكبرى في البلاد، ولقد خلق غياب هذه البنية الأساسية فجوة معلوماتية، وقطيعة ثقافية، وجعل صورة العراق أمام المجتمع الدولي تعتمد على روايات الآخرين، ومنصاتهم الناطقة بالإنـجليزية، بدلا من أن تُكتب بأيدي العراقيين أنفسهم.
القوة الناعمة عبر الثقافة
إن هذا الغياب لا يعني أن العراق يفتقر إلى رأس مال ثقافي. فهو مهد اللغة ومبدع ملحمة جلـجامش، ووريث العصر العباسي علما، وفنا، ولغة، وترجمة. وقد أسهم في ريادة الرواية والمسرح والسينما الحديثة. واليوم، يبدع الشعراء والروائيون والسينمائيون والفنانون العراقيون أعمالاً قادرة على الحضور والمنافسة العالمية، حيث المسارح في بغداد والموصل والبصرة ما زالت تنبض بالعروض، والفنانون والموسيقيون والمهندسون يعيدون رسم الهوية العراقية. ولكن من دون سياسة وطنية نشطة للترجمة ولمشاريع إعلامية بالإنـجليزية، تبقى هذه الإنجازات حبيسة الداخل، غائبة عن أعين المهتمين والنقاد وعن الاهتمام العالمي، لأن غياب أدوات الدبلوماسية الثقافية يحرم العراق من تحويل ثقافته الغنية إلى قوة ناعمة قادرة على تحسين صورته في الخارج، وعلى طرح بدائل أكثر إنسانية لما تطرحه العولمة.
الترجمة: نقطة قوة مهملة
المفارقة أن العراق يمتلك أصلاً ما يتيح له تحقيق هذا المشروع. فسمعته في الترجمة والدراسات الترجمية رائدة عالمياً. يكفي أن نذكر أستاذ الفلسفة العراقي محسن مهدي الذي أعاد بناء أقدم مخطوط لـ “ألف ليلة وليلة”، وأن الترجمة التي أنجزها حسين هدّاوي لهذه النسخة لاقت استقبالاً عالمياً بوصفها علامة فارقة في تعريف القارئ الإنـﮕليزي بالأدب العربي الكلاسيكي. كذلك، يبرز اسم البروفيسور باسل حاتم كأحد أهم المساهمين في نظرية الترجمة وتعليمها. ولا يمكن إغفال جهود مئات المترجمين العراقيين الاحترافيين المنتسبين إلى جمعية المترجمين العراقيين (ITA) الذين يبذلون جهودا كبيرة لوصل العراق بالعالم عبر ترجمات في الأدب والعلوم والسياسة والإعلام. هذه القاعدة البشرية والعلمية قادرة على تشكيل العمود الفقري لمشروع وطني شامل للتواصل بالإنـجليزية.
أبعد من الثقافة: استراتيجية تواصل
الصورة العراقية لا تتعلق بالثقافة وحدها، فالعالم يحتاج إلى صوت عراقي مباشر يعكس حقيقة الاقتصاد، والأمن، والزراعة، والتنمية الاجتماعية، والأكاديميا والأبحاث المتنوعة. فالمستثمرون وصانعو السياسات والباحثون الدوليون بحاجة إلى بيانات دقيقة حول العراق وأسواقه ومشاريعه وبناه التحتية. وكذلك الجاليات العراقية في الخارج، إلى جانب الرأي العام العالمي، يتطلعون كلهم إلى روايات أصيلة تعكس إنجازات العراق وتحدياته. لهذا فإن غياب منصات رسمية بالإنـجليزية يدفع بدول العالم إلى الاعتماد على مصادر خارجية، غالباً ما تختزل ما في العراق إلى صورة الصراع والفساد والإرهاب، بينما يُغفل الوجه الثقافي والحضاري والإنساني للعراق.
نحو سياسة وطنية للتواصل الدولي
الحاجة ماسة اليوم إلى تبني سياسة وطنية واضحة لرسم صورة العراق (Nation Branding) وتعزيز دبلوماسيته العامة (Public Diplomacy)، وهذه السياسة يجب أن تتضمن:
ـ إنشاء نسخ إنـجليزية موازية لجميع المواقع الرسمية للمؤسسات الحكومية، وللمؤسسات غير الرسمية الكبرى.
ـ إطلاق صحيفة كبرى ومنصة رقمية عراقية بالإنـجليزية (لعلها ضمن المدينة الإعلامية!).
ـ تأسيس مجلات ثقافية وبرامج إذاعية وقنوات تلفزيونية بالإنـجليزية.
ـ دعم ترجمة الروايات والقصائد والبحوث الأكاديمية العراقية إلى الإنـجليزية، وتوفير مادة دراسية ومنهجية باللغة الإنـجليزية للأعمال الشعرية والأدبية والنقدية والفنية العراقية، لتكون بين يدي الدارسين الأجانب.
ـ الاستفادة من خبرات المترجمين العراقيين والاستثمار في المؤسسات العلمية مثل المجمع العلمي العراقي وبيت الحكمة لتدريب ودعم المؤسسات المعنية للوصول إلى القارئ العالمي.
إن ثمار هذه الخطوات لن تقف عند تحسين الصورة الثقافية والفكرية للعراق، بل ستسهم أيضا في تعزيز الشفافية، وجذب الاستثمارات، وبناء الثقة مع المجتمع الدولي.
استعادة الصوت العراقي
لقد ترك العراق للغرباء مهمة رواية قصته، فأصبحت صورته ناقصة وسلبية في الغالب. إن استعادة السردية العراقية بلغة يفهمها العالم ليست ترفاً، بل هي ضرورة استراتيجية لنهضة العراق كدولة حديثة وكعضو فاعل في المجتمع الدولي. فالعراق يمتلك الإرث الثقافي، وة الترجمية، والكفاءات البشرية، بل يمتلك كل ما يحتاجه لتحقيق هذه المهمة، والمسألة ليست في الإمكانات، بل في الإرادة الوطنية لإعادة العراق إلى المجتمع الدولي كبلد متحضر، يسهم في خير البشرية. فهل سنشهد قريبا انطلاق النسخة الإنـجليزية من جريدة “الصباح” وبقية الجرائد والمجلات المتنوعة التي تعكس جميعها هوية العراق؟